يكاد الخواء السياسي السائذ أن يتحول إلى نوع من الاستنكاف والحياد البارد والتنصل من المسؤولية عن كل ما يمكن إدراجه في خانة “الشأن العام”.
والخطورة أن بعض المراجع “الرسمية” تتدرج في سلبيتها نحو نفض يدها والتودد إلى “المستنكفين” بالتنصل من مسؤوليتها عما وقع ويقع، تارة بالتذرع إنها مغلوبة على أمرها، وطوراً بالادعاء إنها لم تكن تملك خياراً إذ لا بديل أمامها ولا فرصة لاستيلاد البديل المطلوب.
ومن خلال جملة من المواقف الصادرة عن “مرجعيات” روحية وزمنية مسيحية عموماً ومارونية خصوصاً، تتبدى معالم “خطاب سياسي” جديد ينذر بمخاطر جدية على مستقبل هذه “الجمهورية” وصيغتها المستحدثة باتفاق الطائف الشهير.
وثمة ما ينذر بأن ترتكب القيادات المسيحية، والمارونية أساساً، خطأ مشابهاً للذي ارتكبته في صيف 1989، والذي أدى إلى نسف الانتخابات الرئاسية وترك البلاد نهباً للفوضى وحروب “الجنرالا” لمدة سنتين أو يزيد.
إن “الخطاب السياسي” الجديد يستولد أجواء غير صحية من شأنها تسميم المناخ عشية الدعوة لانتخابات نيابية يفترض فيها أن تجدد دماء هذه “الجمهورية” التي ولدت بعملية قيصرية استنفذت ما يمكن إنقاذه منها.
وما يجب أن يقال بصراحة: إن الاستنكاف ليس منقذاً، وأن تجاهل الحقائق الديموغرافية والتحولات السياسية الهائلة التي غيرت الكون لا يمكن أن يرسما معالم الطريق إلى “السلام” أو “السلامة”.
لقد سقطت إمبراطوريات وقوى كونية عظمى، وانهارت دول وأنظمة كانت مضرب المثل في القوة والسيطرة وصرامة الانضباط والتحكم، وطرأت تحولات جذرية على بنية أنظمة أخرى كانت تبدو مستعصية على أي تطور أو تبديل.
فما عن هذا البلد الصغير ونظامه الفريد؟!
لم تعد هذه “جمهورية” الجنرال غورو (1920)،
ولا هي “جمهورية” الجنرال سبيرز (1943)
ولا هي “جمهورية” الجنرال فؤاد شهاب (1958)
كذلك فهي لم تعد ساحة تجارب للصراع بين الإمبراطوريات والجمهوريات والممالك، ولا حتى ساحة صراع بين الطوائف المسلحة وجنرالاتها الكثر وآخرهم جنرال الحروب المتوالية والخاسرة جميعأً ميشال عون.
لكنها ما تزال تحمل آثار ذلك كله، وفيها بقايا مختلف “الجمهورات” التي تعاقبت على أرضها الصغيرة. وصيغتها المستحدثة في الطائف، على عجل، أخذت شيئاً من كل “جمهورية” عبرت، وقدمت إطاراً سياسياً للجمهورية العتيدة المرشحة لأن ترث وتجب ما قبلها. ولذلك فهي تشبه الماضي بأكثر مما تنتمي إلى المستقبل.
وإذا كان الاستنكاف في صيف 1989 قد أسقط جمهورية 1943 وصيغتها، فالخوف الآن أن يؤدي الاستنكاف عن انتخابات صيف 1992 إلى إسقاط جمهورية الطائف وصيغتها حمالة الأوجه.
ولن يكون البديل العودة إلى أي من “الجمهوريات” السابقة، أو الاستنقاع في الفراغ والخواء في انتظار “البطل” التاريخي العتيد.
والقوي من يواجه ويملأ الفراغ لا من يستقوي به على … المستقبل!
والاستنكاف لن يبني ، بأي حال، جمهورية الأحلام!
الرحيل على القدس…
مل الانتظار “أبو نبيل”، وهو الصبور الجلود المعتصم بتاريخ نضاله الطويل، فقرر أن يسبق بالعودة إلى “قدسه الشريف” لعله يدرك منه ما لم يطله بعد التحوير والتشويه والحذف والنسف والهدم بالأمر تمهيداً لإقامة المزيد من المستوطنات للمستقدمين الجدد من يهود الشتات ليكونوا بدلاء منه (وأهله) في أرضه المقدسة.
ولقد أتعب الانتظار، الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى “سياسة رسمية معتمدة”، قلب عبد المحسن أبي ميزر، فتهالك تحت وطأة التنازلات والمساومات والأخطاء والتكتكات العبثية التي قد تقدم “الشخص” على “القضية” مفترضة أنه “الرمز”، بينما الموضوع – بأصله المتوهج – قائم وحي وحاضر كأعظم ما يكون الحضور الإنساني النبيل.
عبد المحسن أبو ميزر هو “الفلسطيني” بوصفه “العربي” بامتياز، إنه المغربي واليمني، السوري واللبناني، المصري والعراقي: كل نصر قومي يخصه ويرى من واجبه أن يسهم في حمايته ودعمه لأنه يرى فيه خطوة في اتجاه فلسطينه… العربية بالضرورة.
ونعمي عبد المحسن أبي ميزر يكاد يكون إغلاقاً لصفحة من النضال القومي الذي اتخذ من فلسطين منهاج عمل من أجل الوحدة والحرية والعدالة بالثورة وبالتقدم في اتجاه العصر وقهر قوى الظلم والظلام في الداخل أولاً ثم في الوحدة.
ولقد ناضل عبد المحسن أبو ميزر في الساحات جميعاً، ثم لما ضربت الفرقة (والسلطة) صفوف الرفاق القدامى، رفض أن يكون جزءاً من معسكر أو داعية للفتنة أو محرضاً على اقتتال الأخوة، فاعتصم بدور “الضمير”: يحاول تصحيح الانحراف في النظرة أو في المسلك، بحرص على رفاق السلاح، كل رفاق السلاح، من أجل بيت المقدس وفلسطين والأمة جميعاً.
ولسوف يفتقد الفلسطينيون خصوصاً والعرب عموماً هذا المناضل النقي الذي نذر السنوات الأخيرة من عمره لمكافحة الخطأ واليأس، ولتصحيح الوجهة وللتذكير الدائم بحقائق الحياة والتاريخ والجغرافيا.
وكان يفاجئنا كلما التقنيا بكشف جديد يتخذه – من قلب ثقافته الغنية – شعاراً وراية وخطة عمل. وآخر ما كان يردده نقلاً عن أستاذنا الجاحظ: “من ثقل عليه شقيقه أو صديقه خف عليه عدوه”.
لم ينقص المناضلون العرب فحسب واحداً من خيارهم، بل لقد نقص أهل الحكمة أيضاً واحداً من أفضلهم، وهم في الأصل قلة.
والعزاء في هذا الشعب العربي العظيم المجدد نضالاته ومناضليه وأدوات نضاله كل يوم.