برغم إن الإعلان عن قيام “جبهة الخلاص الوطني” هو إعلان عن الشروع في بناء مؤسسة لتنظيم المعارضة السياسية وتزخيمها، فإن الحكم – وأكثر من أية جهة أخرى – هو القادر على تزويدها بأسباب النمو والاستمرار والمشروعية والحياة، كما إنه القادر – بسياسته وتوجهاته العامة – على تحويلها إلى مجرد هيئة تكتمل بها الواجهة الديموقراطية للنظام في لبنن.
فلقد ارتكزت هذه الجبهة التي اتخذت بعلبك نقطة انطلاق والشمال مقر قيادة، والجبل ، ممثلاً بوليثد جنبلاط، صلة وصل (أو رأس رمح للقتال؟) على قضيتين أساسيتين:
*رفض “الاتفاق” مع العدو الاسرائيلي ، بما هو تخل رسمي عن انتماء لبنان العربي، وتخل عن ميثاق 1943، وعن القاعدة التاريخية في ألا يكون لبنان للاستعمار “ممراً أو مقراً”،
*رفض صيغة “الغالب” و”المغلوب” بما تستتبع من “هيمنة” فئوية تضع السلطة ومقدرات البلاد، في خاتمة المطاف، بين أيدي أقلية الأقلية، مهما كانت الادعاءات عن شعبية حزب الكتائب وصحة تمثيله لمسيحيي الشرق، ومهما تزايدت التبجحات حول قدرات “القوات اللبنانية” التي لا تحد!
ومواقف الحكم، وممارساته الفعلية، وتوجهاته، وأنماط تحالفاته هي التي تحدد المدى المفتوح لتنامي قوة “الجبهة” وصيرورتها ضرورة وطنية عامة تستقطب أكثرية اللبنانيين، بقواهم الفاعلة ورموزهم، وتطجرح نفسها بديلاً مؤهلاً لإنقاغذ لبنان وشعبه.
وعلى سبيل المثال، فإن استمرار الحكم في اعتماد المنهج الذي أدى إلى “الاتفاق”، أو استمراره في المكابرة ورففض حقيقة إن “الاتفاق” ولد ميتاً ثم قتل مرات ومرات بأيدي الإسرائيليين، قبل اللبنانيين وسائر العرب، وإصراره على الافتراض بأن أوراق الحل جميعأً هي في درج من أدراج البيت الأبيض، كل ذك لا يمكن أن يؤدي إلى إضعاف جبهة المعارضة الوليدة، بل إلى العكس تماماً: أي إلى إضعاف الحكم وتضعضعه وارتباكه وعجزه عن تقديم حل ناجح يخرج لبنان من محنته أو يخفف من آثارها المدمرة عليه.
وعلى سبيل المثال أيضاً فإن استمرار الحكم في سياسة بناء الدولة ومؤسساتها بمعزل عن القوى السياسية الأخرى، ومع تجاهل لأسس التركيبة اللبنانية ومن غير تقديم أي بديل مقنع عنها، سيكسب منطق المعارضة مزيداً من المصداقية وسيكتل من حولها مزيداً من الفئات والقوى والمناطق والهيئات المتضررة.
ففي غياب اتفاق وطني عام على “صيغة” البلد يصبح تعيين موظف واحد من لون معين مؤشراً على توجه، وليس إنصافاص لحزب الكتائب من غبن تاريخي لحقه في مجال الإدارة.
وفي ظل حساسيات مرضية وانقسامات حادة كالتي خلفتها الحرب لا يمكن التعاطي مع اندفاع الكتائب (ومن معها) إلى السيطرة على المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية والخاصة بما فيها النقابات. إلا كدليل على اعتماد “الهيمنة” سياسة وإجبار الناس على التسليم بمنطقها تحت ذريعة إن الكتائب انتصرت بانتصار حليفها الإسرائيلي في حين إن خصومها قد هزموا بهزيمة حلفائهم (الفلسطينيين والسوريين!).
إن حزب الكتائب يتصرف وكأنه الحزب الحاكم، ويتصرف في الوقت نفسه كأقوى ميليشيا أو “جيش ظل” في البلد، ويعطي نفسه حق الكلام باسم الدولة وباسم الجيش اللبناني، وباسم قوى الأمنن بل وينوب عنها في كثير من الحالات،
وهل أجلى وأوضح دليلاً من أن الحزب هو الذي اعتقل من اتهمهم بقتل رئيس جمهورية لبنان (المرحوم بشير الجميل)، وهو من حقق معهم، ومن استبقاهم في “سجونه” شهوراً، ثم إنه تكرم فسلمهم إلى الدولة “خالصين مخلصين” بحيث لا يتوجب عليها أكثر من تحمل مسؤولية إعدامهم بدل أن يتحملها هو!!
وحزب الكتائب متهم، بالتضامن والتكافل، مع “القوات اللبنانية” باحتجاز أو إخفاء أو إعدام مئات من الشباب اللبنانيين، ولا ينفع إنكار قياداته اللفظي في تبرئته ولا في إظهار براءة الدولة من تهمة التواطؤ أو التستر أو الخضوع لما يقرره الحزب، خصوصاً وإن هذه الممارسات مستمرة ومتصلة ويومية حتى في المناطق التي “وهبها” الحزب للدولة تحت لافتة بيروت الكبرى الطيبة الذكر.
ومثل هذه التصرفات والممارسات ستدفع الناس زرافات ووحداناً في اتجاه “جبهة الخلاص الوطني”، وتحول الجبهة إلى قوة سياسية – عسكرية مطالبة بالعمل على استلام السلطة ممن أعطوا الفرصة مرتين فأضاعوها وأضاعوا معها حقهم في الحكم، من غير أن ينتقص ذلك من حقهم في الوجود وفي النضال من أجل استقطاب الناس إلى خطهم وأيديولوجيتهم وتصورهم لمستقبل لبنان.
ونعود إلى “جبهة الخلاص الوطني” وما ينتظره الناس منها.
من المؤكد إن كثيراص من المواطنين لم يستقبلوا ولادة الجبهة بالحماسة المطلوبة، وذلك لأسباب منها:
1 – يرى البعض إن الخطوة مبكرة، نوعاً ، وإنها قد تعطي الحكم ذريعة لاتهام خصومه بالتسرع، وقد تعطي حزب الكتائب ذريعة للتمادي في سياسته التقسيمية، وبالتحديد في المناطق التي تهيمن عليها “قواته”، ولاذكاء المناخ الطائفي في البلد عموماً.
2 – كان الناس بحاجة إلى مزيد من الوقت، وبحاجة إلى إطلالة مختلفة من الأحزاب التي كانت منضوية في إطار “الحركة الوطنية”، ليتقبلوا عودة هؤلاء إلى الساحة، خصوصاً وإن عودتهم مرتبطة (كما عودة “القوات”) بتجدد الحرب الأهلية . وبالتأكيد فإن الناس مع تجديد الدم في شرايين الحياة السياسية في البلد، ومع تأجيج الصراعات، ولكن ضمن إطار اللعبة الديموقراطية ومع مراعاة أصولها، وليس بالعودة إلى السلاح…
3 – كان الناس يرغبون في أن تتسع الجبهة، أفقياً، لتضم مزيداً من الأسماء والرموز بحيث تتخطى نطاق الهيمنة المفروض على مناطق أو فئات أو هيئات وقوى، وتعطي – منذ اللحظة الأولى – نفحة توحيدية أعم وأشمل.
وبهذا المعنى فقد افتقد الناس ركناً رابعاً، وخامساً وسادساً… ومع إن الجميع أحسوا بأن “أمل” موجودة بشكل ما في”الجبهة” ، أو على تماس وتنسيق معها، إلا أنهم كانوا يفضلون لو إن المساحة السياسية للجبهة تتسع لـ “أمل”، و”تجمع الموارنة المستقلين” ولبعض الشخصيات والنواب وغيرهم من ذوي السمعة الوطنية (هل من الضروري أن نسمي سليم الحص وأخرين)؟!
ففي مقابل حشد الأحزاغب التي لم تكن تجربتهم في إطار “المجلس السياسي” ناجحة تماماً، تمنى الناس لو حشد عدد مماثل من الشخصيات والهيئات والقوى ذات النفوذ والفعالية، اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، بحيث تتحول “الجبهة” على مجسم لصيغة لبنان المستقبل – في إطارها التنظيمي كما في برنامجها السياسي – كما يريدها ويتمناها اللبنانيون.
على إن هذه الملاحظات على الشكل لن تحدد الموقف النهائي من “الجبهة”، بل إن الناس سيتعاطون مع الممارسة ومع المنهج ومع التطبيقات على الأرض،
والناس سيكونون أقسى على الجبهة منهم على الحكم،
وهم سيطالبون الجبهة بالوحدوية، وبمزيد من الوحدوية كلما اتهمت، من موقع المعارضة، الحكم بالفئوية أو بالسماح بهيمنة الحزب الواحد على السلطة،
وهم سيطالبون الجبهة بمشروع حل للمسألة اللبنانيةن بمقدار ما تتهم الجبهة الحكم بالعجز عن تفير هذا الحل وإحالة الموضوع على المواطن ومطالبته بتوفير “البديل”،
وهم سيطالبون الجبهة بتحديد صيغة لبنن المستقبل بما يرضي طموحات اللبنانيين المكتوين بنار حرب عمرها الآن 9 سنوات، خصوصاً إذا ما عجز الحكم عن تحديد مثل هذه الصيغة وطرحها.
ومع إن الناس ليسوا مثل الحكم حساسية تجاه دمشق إلا أن إعلان الجبهة من بعلبكن ثم تتويجها باللقاء الثلاثي في الشمال، قد لقي استقبالاً طيباً إذ منع إثارة الحساسيات في وجه الجبهة يوم ولادتها،
وإذا كان وليد جنبلاط قد خص بالتحية والذكر قوى عربية محددة هي الجمهورية العربية السورية والجماهيرية العربية الليبية، مع التشديد على ما يأمله من خير في الحركة الاصلاحية داخل حركة فتح، فإنه لا بما قاله في المؤتمر الصحافين ولا بما تضمنه الميثاق قد أقفل الباب أمام أية قوة عربية أخرى تتخذ الموقف نفسه من القضيتين الأساسيتين: “الاتفاق” مع إسرائيل، وخطر الهيمنة الحزبية والفئوية في الداخل.
إن الحكم لا يستطيع الادعاء، حتى الآن، إن الجبهة قد أعلنت الحرب عليه،
فلا سليمان فرنجية ولا رشيد كرامي ولا وليد جنبلاط نفسه من “الانقلابيين” الخطرين، ولا هم من “العصاة”، ولا هم من “المتطرفين” ، كذلك فليسوا ممن يسهل اتهامهم في “لبنانيتهم” ، إلا بالطريقة المبتذلة الرائجة.
إنهم يرفعون مطالب محددة، مع إبقاء خطوطهم مع الحكم ومع إبقاء استعداداتهم للتعاون مفتوحة، إذا ما أخذ بهذه المطالب أو سلم بوجاهتها، حتى وإن اعتذر بعدم القدرة على التنفيذ لأسباب خارجة على إرادته،
من هنا القول بأن الحكم هو الذي يقرر كيف تكون هذه الجبهة وإلى أي حد تكون قدراتها وتأثيرها على مستقبل لبنن: فإن هو أعلن الحرب عليها أو استخف بما ترفع من مطالب، وبمن تمثل من قوى في الداخل والخارج، فإنه سيكون كمن يغذي خلفه ويوفر له أسباب النمو ومبررات الوراثة،
أما إذا عمد الحكم إلى فتح باب الحوار على مصراعيه، حول مستقبل لبنان وصيغته، مع الجبهة وغيرها من القوى السياسية، محرراص نفسه من أي التزام مسبق كما من أية مطالب فئوية وحزبية، فإنه يكون قد وفر باب الحل أمام نفسه وأمام الجبهة وأمام القوى الأخرى، بل وأمام كل اللبنانيين ومعهم سائر العرب.
والكلمة بعد للرئيس،
ونرجو أن تكون الرحلة الأميركية، بكل ما حفلت به، قد أقنعته بتلك الحقيقة الصغيرة الباقية والباهرة: الحل هنا، يبدأ هنا ويكون هنا، وبالحوار الخصب ، أو لا يكون أبداً.
نتوافق هنا، ثم ننطلق إلى العالم ليبارك توافقنا، أو يتوافقون علينا ثم يتوزعون ما تبقى من لبناننا ومنا، ولات ساعة مندم!
وبقدر ما يكون أمين الجميل رئيس لبنان، مشروع الوطن، الموحد، المؤكد الانتماء القومي، يكون رئيس جبهة الخلاص أيضاً،
أما إذا فشل لا سمح الله فلا بد من استمرار البحث عن الخلاص عبر هذه الجبهة أو غيرها.