برغم “الاتفاق” ، بكل ما قيل عنه وفيه، فما تزال إسرائيل تتصرف على أساس أن لبنان، بشعبه وأرضه ودولته ومؤسساتها، بأحزابه جميعاً يسارها واليمين، هو عدو لها، مثله مثل سائر العرب لا يفضل أحدهم الآخر ولا ميزة لأحدهم على الباقين بغض النظر عن الأديان والمذاهب والطوائف والشيع والملل والنحل كافة.
إسرائيل تعرف نفلسها. هي “العدو” لأبناء هذه المنطقة. هي فيها أو هم. والمنطقة تكون لها، أو تحت سيطرتها بأقل تعديل، أو تكون لهم: أرضهم، موطنهم، ترابها من أجساد أجدادهم وآبائهم، وانسامها من أنفاسهم، حاضرها هو الحياة ومستقبلها هو الحلم السني وهو الميراث المتروك للأبناء والأحفاد.
وإسرائيل تعرف لبنان وتعرفه على أنه – مسالماً أو مقاتلاً، باتفاق أو من دونه – واحد من أعدائها، قد تكون صيغته الأخطر عليها وإن لم تكن قوته (العسكرية) بذات بال بالنسبة لما توافر في ترسانتها الأميركية من أسلحة فتاكة وعتاد خطير التطور.
وهكذا فإن إسرائيل لم تغير حرفاً واحداً في خطتها تجاه لبنان، بعد “الاتفاق” البائس، بل لعلها قد سرعت تنفيذ بعض “ترتيباتها الأمنية” التي تحمل – جميعاً – طابع الفتن تمهيداً للتشليع والتفسيخ ونسف صيغة لبنان وبالتالي مشروع الوطن.
وليس من حقنا أن نلوم إسرائيل أو نعتب عليها ، فـ “الاتفاق” لا يعطينا مثل هذا الحق، وكذلك لا يمنحنا “إنهاء حالة الحرب” و”وقف الحملات العدائية” ، صلاحية تغيير طبيعة إسرائيل وصفاتها وخصائصها الأصلية.
وما جرى خلال اليومين في الشوف، حيث لا قوة مسيطرة إلا قوات الاحتلال الإسرائيلي، وحيث لا شبهة ولا التباس في تحديد الجهة المدبرة والمحرضة والمستفيدة، من المجزرة المرشحة للتفاقم إذا لم تنفع الجهود المبذولة لمعالجة ذيولها وحصر مضاعفاتها، هو شهادة ناطقة لمن ينقصه الدليل بعد على طبيعة إسرائيل وعلى إن “الاتفاق” لم يبدل فيها ولم يعدل فيها ولم يغير منها شيئاً.
إنها تتابع حفر خط التقسيم بالدم. إنها تحاول أن تواصل بناء السدود بين أبناء المنطقة الواحدة مستخدمة جثثهم نفسها لتحقيق هذا الغرض. إنها ترسم حدود الكانتونات أو الدويلات الطائفية بخط التهجير الذي سيعقب عمليات الخطف والقتل العمد على الهوية.
وإسرائيل لا تفعل ذلك وحدها. ولا تفعله مباشرة وبعسكرها. بل هي تحققه بتشغيل “الشارونيين”، الأساسيين منهم والإضافيين، المأجورين منهم والمتطوعين، المخيفين منهم والمخوفين، إضافة إلى الخائفين فعلاً.
وهي لم تتأخر يوماً واحداً : فلقد باشرت تنفيذ خطتها الاحتياطية فور أن تنبهت الدولة إلى ضرورة تدعيم الجبهة الداخلية وتوفير تماسكها المطلوب، وهكذا جاء التفجير الجديد أو المجدد بعد ساعات من لقاء القصر الأخير بين رئيس الجمهورية وشيخ عقل الطائفة الدرزية والذي أوصى بإمكان فتح باب الحوار الجدي حول المسائل الوطنية العالقة والتي أرجئت مرة ومرات، ودون سبب مفهوم، إلى ما بعد انتهاء المفاوضات مع إسرائيل والوصول إلى “الاتفاق” إياه!
وما لم يتم التعاطي مع مسألة الجبل، بحجمها الحقيقي، وبمخاطرها الفعلية، بدءاً من الشويفات وصولاً إلى الشوف مروراً بإقليم الخروب وبالشحار الغربي، وعاليه وانتهاء بالمتن الأعلى،
وما لم يتم كشف الجذر الإسرائيلي لهذه الخطة التي تصورها البعض وكأنها مجموعة من الحوادث قد تكون مقلقة ولكنها لا تهدد الصيغة أو الكيان أو المصيرز
وما لم يتم الاعتراف بأن الحوار الوطني ضرورة لها الأولوية على المفاوضات مع العدو الإسرائيلي لنتمكن من مواجهته متحدين طالما إنه يواجهنا – برغم فرقتنا – على إننا طرف واحد.
ما لم يتم التخلص من بعض الأمراض الخطرة كالتبسيط والانفعال وسيادة روح المخاصمة.
وما لم يتوقف هذا التهريج الإعلامي الممجوج الذي يحاول تغطية السماوات بالقباوات، ويزيف الصورة على المواطن ويحاول “بلفه” بالكذب والتدليس والمعلومات الخاطئة القائلة بأن “كل شيء تمام” بل وتمام التمام!!
ما لم يتم التأكيد إن “المفاوضات” بين اللبنانيين لها الأولوية المطلقة، وتأتي بعدها المفاوضات مع الأشقاء والأصدقاء، ثم أخيراً تكون مواجهة العدو.
ما لم يتم ذلك، بسرعة وبحزم وما لم يعتمد كسياسة عليا ونهائية، فسنبدو وكأننا نعطي “الاتفاق” من الاهتمام والأهمية أكثر مما نعطي وحدة البلاد، وندافع عنه أكثر مما ندافع عن لبنان وشروط وجوده.
وأول شروط وجوده أن تظل إسرائيل في عينه هي إسرائيل: العدو.
وأن يظل توقع العداء منها هو الأساس… بغض النظر عن الاتفاقات التي قد تكون، هي الأ×رى، سلاح الجريمة أو قناع القتلة.