هل هو صراع بين “وطنيتين” أم بين “إمبرياليتين” هذا الذي تتعاقب فصوله في واشنطن، ويظهر فيه الرئيس الأميركي جورج بوش كبطل مواجهة للتدخل الإسرائيلي الفظ في الشؤون الداخلية والخارجية لأقوى قوة في العالم؟!
بعض الصحافيين الأجانب استعاد تجربة الرئيس الأميركي الراحل دوايت ايزنهاور مع العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر في العام 1956 وقد كانت إسرائيل شريكاً ثالثاً صغيراً و”محلياً” فيه إلى جانب “قوتين عظميين” حتى تلك اللحظة هما بريطانيا وفرنسا، ثم لم تعودا كذلك أبداً.
واقعياً هناك وجوه تشابه في التجربتين، لكن ثمة أيضاً فروقات جوهرية تفرض التمييز فرضاً:
*فايزنهاور واجه يومذاك انطلاقاً من دوافع تنبع وتتصل أولاً وأخيراً من المصالح الأميركية (إمبريالية كانت أم وطنية بمعنى من المعاني).
واتته الفرصسة لتحقيق مجموعة أهداف معاً: أن يضع تخماً لتمدد النفوذ السوفياتي في اتجاه المنطقة العربية (المحتسبة من حصة الغرب، تقليدياً!!)، وأن يكون هو الوريث الغربي – الشرعي – للنفوذين الراحلين (البريطاني والفرنسي)، وأن يكسب ود العرب (والعالم الثالث) بإظهار بلاده نصيرة للحرية وقضايا الشعوب المضطهدة، وبالمقابل يتحمل وزر الوصاية مباشرة على المخفر الغربي، الأمامي ممثلاً بإسرائيل.
** وجورج بوش يواجه انطلاقاً من الدوافع ذاتها ولكن في ظروف مختلفة، فهو يمضي قدماً في إعلان هيمنته المطلقة والمفردة على الكون، بعدما تم “شطب” الوجود أو الدور أو النفوذ السوفياتي، وتحجيم أوروبا واليابان وإلغاء العالم الثالث بمن فيه العرب عبر حرب الخليج.
ولأن جورج بوش ليس مضطراً لمداراة العرب أو لمراعاتهم فهو أقدر على مواجهة التغلغل الإسرائيلي داخل الإدارة الأميركية، خصوصاً وإن هذه المواجهة – المحدودة على أهميتها – لن تؤثر على جوهر العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، وأساساً على الالتزام الأميركي الدائم بمساعدة إسرائيل ودعمها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً الخ.
*وايزنهاور، البطل الأميركي في الحرب العالمية الثانية، ثم في كوريا، حيث أمكن وضع حد غربي للزحف الشيوعي المتعاظم والذي بات يهدد بمحاصرة العالم الرأسمالي وتصديعه من الداخل، استطاع أن يستعيد زمام المبادرة وأن يبدأ هجوماً مضاداً على نطاق الكون على قاعدة “التقاسم الثنائي” بدلاً من الرباعي، وحصر الخسائر في معسكره.
وكان ذلك هو التمهيد العملي لمباشرة الولايات المتحدة الأميركية دورها كقطب كوني مكتمل النمو وقادر على مواجهة الخصم العقائدي الخارج من خلف الستار الحديدي بقوة بهرت شعوب العالم المستضعف واستقطبتها على قاعدة العداء المشترك للغرب الاستعماري.
** كذلك فإن جورج بوش، البطل الأميركي في حرب الخليج حيث تكرّست الهيمنة الأميركية على مقدرات العالم، شرقاً وغرباً، يتقدم الآن خطوة حاسمة في اتجاه إلغاء “القرار الوطني المستقل” لأي طرف، حليفاً كان أم صديقاً أم بين بين، خصوصاً وإن “خصوم الزمن القديم” قد اندثروا أو استسلموا أو أنهم يهيمون على وجوههم ضائعين تحت وطأة الزلزال السوفياتي الهائل.
وكما حسم ايزنهاور الرباعية إلى ثنائية يحسم بوش الآن الثنائية فيجعلها مفردة لواشنطن بغير شريك.
على إن معركة ايزنهاور كانت ضد بريطانيا وفرنسا أساساً واستطراداً ضد الطرف الثالث الملتحق بهما والمقاتل بقوتها: إسرائيل.
في حين إن معركة بوش مباشرة تماماً ضد “إسرائيل الأميركية”، وليس ضد إسرائيل الإسرائيلية، التي تحتل أراضي العرب وتقيم المستوطنات عليها لتستقدم المزيد من يهود العالم فتحلهم محلهم، بأموال أميركية وتسهيلات لوجستية أميركية، ودائماً تحت مظلة الدعم السياسي غير المحدود.
في الماضي نجح ايزنهاور في “إقامة مسافة” بينه وبين “الحلفاء” أدت بالنتيجة إلى إلغاء دورهم واستيعابه في خطة الحركة الأميركية.
واليوم يحاول بوش البقاء على مسافة من “الحليف الأخير”، إسرائيل، بحيث يستطيع أن يستوعب مطامحها ودورها في خطة حركته السياسية الأميركية.
واشنطن هي المركز، تماماً مثل روما العالم القديم، وليس من مراكز وسيطة بمهمات “مستقلة”.
وبوش يحاول الرد بأمركة إسرائيل على محاولة إسرائيل صهينة أميركا،
أميركا أميركية. أوروبا أميركية. العالم الثالث أميركي. وأي جزء من العالم غير أميركي الهوى أو الهوية يخضع للهيمنة الأميركية. وهذا ينطبق على إسرائيل أيضاًز
و”مؤتمر السلام” مؤتمر أميركي يُجلب إليه العرب والإسرائيليون. وهو بند في خطة الحركة الأميركية، بغض النظر عن كونه “مطلباً” عربياً أو موضع اعتراض إسرائيلي.
لقد شطب السوفيات دورهم بأيديهم، وهو منذ البداية كان رمزياً.
وبهت الدور العربي حتى كاد يتلاشى في أعقاب حرب الخليج، ولولا جرعة الأوكسجين التي وفرتها الحنكة السورية، لكانت انتفت الحاجة – موضوعياً – إلى “مؤتمر السلام” بين العرب والإسرائيليين.
بقي الإسرائيليون على أوهامهم في عصر ما قبل حرب الخليج، وكان لا بد من تدجينهم وإجبارهم على التسليم بالوقائع الباردة الجديدة، وأهمها أن القيادة لواشنطن بلا شريك، وإن قرار السلام والحرب إقليمياً ودولياً هو قرار بحت أميركي، وإن واشنطن وحدها هي التي تحدد أدوار الجميع ووفق ما يخدم سياستها هي وليس ما يخدم مطامح “الحلفاء” السابقين أو مطامعهمز
وإذا كانت عقوبة من يحاول التمرد، عربياً، هي أن يدفن حياً في رمال الصحراء، حتى وإن كان تمرده لا يستهدف أكثر من تحسين الشروط والموقع وضمن خطة “المركزط الأميركي قطعاً،
… فإن عقوبة من يعترض، إسرائيلياً، هي تحجيم المساعدة التي تمكنه من التوسع، أي من إقامة “مركز” آخر، ولو ثانوي، ومشروع إمبراطوري آخر، مهما كان إقليمياً و”صغيراً”.
ولقد اختار بوش أن يواجه “إسرائيل الأميركية” حيث مقلتها: في المساعدات الاقتصادية التي تقدم لها حساب المكلف الأميركي.
فالخيار محدد تماماً الآن، وعلى المواطن الأميركي أن يقرر: هل يعطي نقوده لنقل مزيد من اليهود (المستقرين والآمنين حيث هم الآن في مواطنهم الأصلية) إلى إسرائيل، أم ينفقها على صحته وتعليم أولاده وبناء مساكن لمواطنيه الذين بلا مساكن، ينامون في فوهات المجاري ومحطات المترو وأنابيب تدفئة الشوارع؟!
أما العرب فلن يتبدل موقعهم ولن يتعزز دورهم إلا إذا تبلدوا هم.
فالمؤتمر الأميركي سيظل مؤتمراً أميركياً.
وجورج بوش يضغط لتحجيم أسطورة القوة الإسرائيلية داخل الولايات المتحدة لكي يصبح بإمكانه إدخال إسرائيل إلى المؤتمر من دون أن تهدمه،
ذلك إن العرب أضعف من أن يفاوضوا، وإسرائيل أقوى من أن تتنازل،
لكن بوش يضيف: والولايات المتحدة أعظم من أن يقال لها لا، سواء في الداخل أو في الخارج.
وقد تكون حصة إسرائيل الأميركية من التنازلات العربية أكبر بكثير من حصة أميركا الإسرائيلية.
فالعرب، هنا أيضاً، أضعف من أن يقاتلوا أو يفاوضوا لتحسين الشروط… شروط الالتحاق بالمركز المنفرد القوة والإرادة.