لا تعرف الديموقراطية “التزكية” ولا تعترف بها. بل إن “التزكية” هي نقيض الديموقراطية، تعطلها وتلغيها تماماً وتنسف مبادئها.
وليس من العدل أن تصور البلاد وكأنها عقمت فلم تنجب إلا مرشحاً يتيماً لرئاسة المجلس النيابي ومرشحاً لطيماً لرئاسة الحكومة الجديدة.
إنه تجن على المجلس الجديد ومصادرة لدوره الإنقاذي العتيد بوصفه “حصن الديموقراطية”، كما للمهمة المنتدب لها – ولو بالتمني – في تجديد الحياة السياسية وإطلاق الصراع الديموقراطي بعد تحريره من إرهاب السلاح والمال والقوى المتحكمة – عبرهما وبواسطتهما – بالحق الطبيعي للناس في التعبير عن آرائهم بحرية.
كذلك فحديث التزكية يتضمن إساءة معنوية للمرشح الفرد لكل من الرئاستين الثانية والثالثة، إذ يقدم كل منهما كأسطورة، ويلقي على كاهليهما مجتمعين ومتفرقين مهمات ثقيلة تحتاج إلى تضافر جهود هائلة، داخلياً وعربياً ودولياً، لمحاولة إنجاز الحد الأدنى منها.
فنبيه بري يعرف، كما رفيق الحريري، إن لبنان لا ينقذه فرد ولا مجموعة من الأفراد، كائنة ما كانت كفاءاتهم، بل إن الخطوة الأولى على طريق إنقاذه إنما تتمثل في بعث أو بالأحرى في بناء مؤسساته الدستورية كمدخل لإعادة بناء إدارته المتهالكة واقتصاده المدمر ومرافقه المنهوبة وعاصمته المعطلة القلب والممزقة الضواحي.
وإذا كان البعض قد أخذ على حسين الحسيني إنه صادر دور المجلس النيابي، لحساب رئاسته، فمن الضروري تجنب مثل هذا الخطأ القاتل، خصوصاً وإن الحسيني “ورث” مجلساً ممدداً له ومعطل الدور ومنسياً فلما جاءت الفرصة لتعويمه كان دور “الرئيس” أساسياً وحاسماً، في لحظات معينة.
أما المجلس الجديد (لنج) فآت لاجتراح المعجزة، بإعادة الروح إلى النظام الديموقراطي البرلماني الذي أعطاه القيمون عليه، حتى لحظة الانتخابات، إجازة طويلة، ثم إنه يضم حشداً من الوجوه الجديدة التي طالما تظللت راية التغيير والتطوير، ولا يجوز والحالة هذه أن يبدأوا عهدهم فيه وأن يبدأ عهده معهم بسقطة التزكية.
والنفاق هو توأم الإرهاب، تماماً كما أن الطمع هو الأخ الشقيق للخوف.
والتزكية لا تتم إلا بتواطؤ مكشوف بين المنافق والإرهاب وبين الخائف والطامع،
لقد شهد لبنان أسوأ تجربة مع أمين الجميل الذي حملته المصادفات القدرية إضافة إلى واقعة الغزو الإسرائيلي إلى سدة الرئاسة في لبنان.
وهو قد ارتكب الأفظع من آثامه تحت لافتة إنه “رئيس الإجماع الوطني”، ونهب خزينة البلاد ودمر اقتصادها وشن الأفظع من الحروب على شعبها باعتباره “المنقذ” الفرد الصمد الذي لا شريك له ولا نظير.
ويذكر اللبنانيون قطعاً كم تباهى بكونه “بطل مغامرة الإنقاذ”، وكانت النتيجة إنهم ما زالوا حتى اليوم يدفعون ثمن تلك المغامرة البائسة التي انتهت بتدمير آخر ما كان تبقى من الوطن “أرضاً وشعباً ومؤسسات”.
إن لكل رجل تاريخه. والتزكية ليست إضافة إلى رصيد نبيه بري (أو رفيق الحريري)، ولكنه إنقاص من كرامة المجلس ونوابه المائة والثمانية والعشرين عداً ونقداً، وطعنة للروح الديموقراطية إصلاً.
إن أياً من الرجلين لن يصير غير ما هو عليه بتقديمه على أنه “الأوحد” لكن المجلس سيموت في لحظة ولادته إذا ما بدأ عهده بتقزيم نفسه (والبلاد) واختصارها في شخص أو مجموعة أشخاص.
وحتى في أسوأ أيام النظام الديموقراطي البرلماني، بقي الحرص على أصول اللعبة الديموقراطية… فقبل ثلاث سنوات، إلا قليلاً، وفي مظار القليعات بشمالي لبنان، أصر “النائب” الياس الهراوي على ترشيح نفسه منافساً لصديقه (الذي كان مقرراً انتخابه رئيساً للجمهورية) الراحل الكبير رينيه معوض (بعد انسحاب الدكتور جورج سعادة) حرصاً على الأصول الديموقراطية، ومنعاً لتزكية يسهل الطعن بها، مع إن الكل كان مستعداً للتسليم بها آنذاك، نظراً للظروف الاستثنائية التي تمليها.
والديمقراطية ليست انتقاصاً من الشعبية وليست طعناً بها، ويفترض بمن وصل عن طريق الانتخاب، أن يكون الأحرص على الديمقراطية لأنها هي التي أدت شعبيته وميزت النيابة بالأصوات عن النيابة بالتعيين… أو بالتمديد.
إن آمالاً عريضة معقودة على هذا المجلس المنتخب بعد عشرين عاماً من غياب دور الإرادة الشعبية، وتعطيل الصراع السياسي بالوسائل الديمقراطية.
وليس جائزاً ، بأي حال، أن يستمر الحال كما كان قبل الانتخابات ، فيتم إقرار كل شيء “بمادة وحيدة” أو “برجل وحيد”، ويقتصر المحضر على كلمة مخزية وحيدة هي “صدق”، وكفى الله النواب شر إعلان المواقف وتحمل المسؤولة عنها.
ليس جائزاً أن ينجح “واحد” ويسقط المجلس، كائنة ما كانت المبررات والأعذار، وبغير أن يعني هذا الكلام طعناً بكفاءة أي من المرشحين لأن يكونوا رؤساء بالتزكية.
فالتزكية تظل إرهاباً ، ولو اتسمت وسائلها بالديموقراطية ، مراعاة لشكل الأصول.