مرة أخرى، تقف البلاد على شفا بطالة سياسية من شأنها، إذا ما تكاملت حلقتها، أن تعطل المبادرة والقرار الوطني.
فلا حكم، بعد، يسلم الجميع بصفته كمركز للقرار ومصدر وحيد،
والحكومة، التي لم تكن في أي يوم حكومة، تنتظر قرار التعويم البائس الذي لن يوفر حلاً وإن بدا وكأنه ينهي إشكالاً.
والجيش، الذي كان أعظم الضحايا لغياب الوفاق الوطني والنهج السليم، ينتظر توفر المناخ الصحي الضروري لإعادة بناء مؤسسته على أرض صلبة لا يؤثر فيها تقلب القادة أو الأمزجة أو النزوات المغلفة دائماً بذرائع طائفية من نوع تطمين الخائفين وحماية امتيازاتهم – الضمانات في وجه المغبونين – المحرومين.
أما بقية المؤسسات العامة فيحكمها الشلل، هذا إذا كان قد أمكن استنقاذها من خطر التفكك أو الانقسام والغرق في جحيم اللون الواحد.
وبالمقابل فإن صورة “المعارضة”، التي اقتربت في الأمس القريب من احتمال أن توفر في ذاتها صورة البديل المؤهل لتسلم قيادة البلاد، تبدو الآن مهزوزة وتعيسة، بعد الذي كان في لوزان… خصوصاً وإن طروحاتها، المتناثرة وغير المحكومة ببرنامج واضح ومنهج عمل محدد، لم تعد تشكل أرض اللقاء العتيد بين القوى الراغبة في التحرير أو التغيير أو حتى التطوير.
لقد بدا للحظة وكأن التلاقي على “وحدة هدف” ، ولو محدودة، بين “جبهة الخلاص” برموزها القيادية وهيكليتها التنظيمية الأولية والاضطرارية ، وبين حركة “أمل” بنزعتها الراديكالية وزخمها الجماهيري، يمكن أن يشكل قوة جذب لأطراف وقوى سياسية أخرى، متنوعة ومتمايزة في رؤيتها ومناهجها، بحيث تقوم من الكل مجتمعين جبهة وطنية قادرة على صياغة البرنامج السياسي الملاثم للمرحلة والمستوعب لمطامح الوطن وهموم المواطنين.
لكن هذا التقدير، بل التمني، لم يعمر طويلاً، وانصرف الجهد بعد لوزان، إلى محاولة تعويم “جبهة الخلاص” ذاتها، في حين يتوجب على العلاقة مع حركة “أمل” أن تنتظر تفرغ المعنيين والقادرين على إتمام عملية ترميم واسعة النطاق، وأما “الحيارة” والباحثون عن جسم سياسي متماسك ينخرطون فيه فيوفر لهم الأمان والحماية واستعادة الاعتبار، فموزعون بين تيه الشعور الممض بخيبة الأمل أو التباهي ببعد النظر وتهنئة الذات على عدم التورط في خيار كان كفيلاً – لو تم – بتدمير المستقبل!
حتى ليبدو وكأن لوزان كانت محطة بين انشطارين: فما قبلها كان عصر انشطار الحكم ومؤسساته بحيث انعدمت أهليته وفاعليته لغياب الشرط الموجب لقيامه، أي التوافق عليه والتسليم له، وما بعد لوزان هو عصر انشطار المعارضة وتشتتها بما يلغي جديتها كبديل مؤهل لقيادة البلاد،
بل لعل ما حدث في لوزان كان أخطر وأفدح: فالمؤتمر، بكل من احتشد فيه ، ظل أعجز من أن يقدم الصورة المرتجاة للقيادة المؤهلة العتيدة،
كذلك فقد اكتسى الانشطار السياسي، السابق عليه، طابعاً طائفياً عبر سياقه والمواقف التي حكمت المناقشات والنتائج،
وهكذا عاد المؤتمرون ليجدوا إن “الهواء الفاسد” الذي أطلقوه في لوزان قد سبقهم إلى لبنان، فإذا بالطائفيات تنشطر على نفسها منحدرة إلى المذهبيات، وإذا بالناس يغرقون أكثر فأكثر في المستنقع الموبوء ، منشغلين بمواجعهم وجراحهم الجديدة عن الأهداف الصحيحة وعن تبين الطريق إليها.
ولعل في هذا ما يفسر دخول البلاد في حالة انعدام الوزن التي نعيشها الآن في ظل “البطالة السياسية” ، بمعنى: غياب المشروع السياسي الموحد، والشعار السياسي الموحد والموجه والمحدد للهدف والطريق.
أما على جبهة العدو فكان يحدث العكس تماماً،
لقد استوعب العدو الإسرائيلي لطمة إلغاء اتفاق 17 أيار، ولم يضيع قادته وقتاً ثميناً في التساؤل عن البديل ودق أبواب العواصم البعيدة طلباً له، بل اندفعوا يعملون ، غير متسرعين وغير مرتجلين، لتحقيق أغراضهم من “الاتفاق” كاملة من دون “اتفاق” وتصديق يظل ناقص الشرعية في انتظار الإبرام!
فمن الناقورة إلى بيروت، وعبر خطة تشمل الجنوب كله والبقاع الغربي، مروراً بإقليم الخروب والخط الساحلي والشوف، أخذوا يعملون مستخدمين كل الأسلحة والأساليب لخلق أمر واقع يتجاوز أسوأ ما تضمنه “اتفاق العار والاذعان”!
كان المنطق الإسرائيلي بسيطاً: حسناً، لقد أجبرت الدولة على التراجع ولحست تواقيع الموقعين على اتفاق 17 أيار، فلنجبر الأطراف والفئات الواقعة، بعد، تحت الاحتلال مباشرة، أو المرتبطة بالاحتلال والمستمدة منه قوتها وحق المطالبة بأن تتمثل في السلطة، على توقيع اتفاقات منفردة لا مجال من بعد لإلغائها لأن ذلك يلغي المنتفعين بها وأصحاب المصلحة فيها،
وفي ظل حالة انعدام الوزن والانشغال بالذات التي يعيشها أطراف الحكم والمعارضة لم تجد إسرائيل ما يمنعها من السعي لإقرار 17 اتفاقاً مع 17 طائفة أو فئة أو قوة مصطنعة ومستولدة بقوة الاحتلال والاحتقان الطائفي، تعطيها بالمفرق أكثر مما كان يعطيها اتفاق 17 أيار باسم الدولة بالجملة!
وإذا كان الحكم قد حاول، عبر لوزان وبعدها، أن يستعيد شيئاً من صفاته الاعتبارية، عبر اللجنة – الأمنية – السياسية العليا، المزكاة سوريا وسعوديا، وأن يخلق لنفسه شيئاً من الدور ولو المحدود عبر دغدغة أحلام الناس التي تواضعت وتقلصت عند حدود وقف إطلاق النار، فإن المعارضة – ومن معها – لم تستطع حتى الآن أن تستعيد كل المواقع التي كانت لها عشية لوزان.
وفي كل الحالات فإن قضية الوطن تبدو وكأنها بعد خارجهما.
فهذا الجنوب يكاد يكون متروكاً لما يدبره له العدو الإسرائيلي ومعه الوريد الذي يربطه بسائر أنحاء الوطن وأساساً بالمركز بيروت،
وفي ظل هذا الواقع لا يتحول الجنوب وحده إلى أرخبيل، بل كذلك الوطن كله من الناقورة إلى النهر الكبير،
إن العدو يحاول، على الأرض، تفتيت الجنوب نفسه، ومن ثم عزل كل منطقة عن الأخرى، ومحاصرتها،
ثم إنه يحاول فرض حزام آخر بالمناطق المتمايزة في تركيبتها الديموغرافية ، فالمسيحي يحاصر الشيعي والعكس، والشيعي يحاصر السني، والمسيحي في جوار صيدا وجزين يحاصر السني والشيعي ويفصل بينهما، والدرزي يحاصر السني في إقليم الخروب.
وبينما تتوالى تطبيقات هذه الخطة الإسرائيلية المدمرة على الأرض، يعمل العدو لإكمال التفتيت الجغرافي بالتفتيت البشري، فيشتري من يمكن شراؤه ، و”يحمي” من يطلب الحماية، و”يمني” الطامع في الانفصال بتمكينه من الانتحار.
ووسط جو الحمى الطائفية التي لا يعدم العدو وسيلة للنفخ في نارها أو العثور على من ينفخ في هذه النار أو يرتضي أن يكون حطباً لها، تتزايد الشكوك والريب، والاتهامات بحيث تبرر لكل صاحب غرض أن يحقق غرضه ودائماً في داخل القبضة الإسرائيلية.
وهكذا يشمت كل محاصر بالمحاصر الآخر وتيبادل معه الريب والشكوك وسوء الظن، وتتهاوى صورة الوطن مسقطة معها طموحات الجميع.
فمن قال إن بيروت قد كفت أن تكون محاصرة؟!
وكيف لبيروت أن تخرج من الحصار إذا كان الجنوب مفصولاً، والبقاع معزولاً، والشمال مغيباً بحضور حاجز البربارة وأصحابه، والجبل مقتتلاً، وإقليم الخروب ملغماً يستحيل اعتماده جسراً للتواصل وتوكيد وحدة الأرض والشعب؟!
إن بيروت محاصرة.. وفي ظل الحصار وتضاؤل النضال ضد أسبابه وظروفه والقوى التي فرضته وتعمل لإدامته ستتحول إلى مجتمع مغلق يحور بكل أمراض المجتمعات المغلقة، إذ تتحول من نوارة العرب ومنبرهم ومطبعتهم وصحيفة الصباح وشاعرهم ومغنيهم، إلى مستنقع سرعان ما ينقسم أهله على بعضهم ويتذابحون تحت ضغط الشعور بقرب الاختناق،
الشوف محاصر،
والإقليم محاصر،
والجنوب قيد التفتي في حين إن طوق الحصار مكتمل من حوله.
والمبادرة بيد العدو الإسرائيلي وحده، ونحن نتلقى وبالكاد يصدر عنا رد فعل يتناسب وحجم الجرائم التي يرتكبها ضدنا والتي ستؤدي إلى إلغائنا شعباً ووطناً.
إنه يقرر إقفال المعابر فنصدع لأمره،
يقفل الطرق فنلتزم ولا نتحرك عليها،
يجعل الجنوب بعيداً، بعيداً، معزولاً، ومفصولاً والطريق إليه معقدة وضيقة وتخترق أجزاء أخرى من الوطن تختنق تحت وطأة الحصار والحمى المستنقعية، بحيث يصعب الذهاب ويصعب الوصول وتصعب العودة، ويصعب بالتالي الاحتفاظ بالدم دفاعاً في ملايين الشرايين،
وفي ظل انعدام الوزن والبطالة السياسية وتعطيل القوى القادرة على المبادرة واتخاذ القرار وإشغالها ببعضها البعض، يصبح الحصار قدراً لا راد له، فلكل عذره من واقعه المتردي والمقيت،
وهكذا تنعكس الآية التي يصنعها مناضلو الجنوب والبطلات، فبدلاً من أن يكون العدو هو المحاصر وسط مبادراتهم الشجاعة، يتحولون هم – بتخلي أخوانهم أو انشغالهم عنهم – إلى محاصرين، ولا فضل لمحاصر على محاصر إلا بالتقوى!
أسوأ من هذا: بدلاً من أن يرتفع الجميع إلى الأفق العالي الذي صنعه أبطال الجنوب بدمائهم، حيث الهواء النقي، حيث الوطن، يصبح الأخوة في المناطق الأخرى أثقالاً تشد الجنوبي إلى درك الطائفية ومستنقعها القاتل.
ويكبر السؤال، وتتوالد منه التساؤلات سيلاً لا ينقطع:
*إلى متى يرضى الناس بهذا الاستنزاف الفظيع والمدمر… العدو يستنزفهم في كل بقعة من لبنان وهم يستنزفون أنفسهم ويستنزفون بعضهم البعض حيث لا تطالهم يد العدو مباشرة وإن طالتهم الريح السموم التي ينفخها في الأتون الطائفي والمذهبي؟!
*ماذا تنتظر القيادات والإرادات الوطنية لتتلاقى على برنامج حد أدنى سقفه مقاومة خطة المحتل في التفتيت والتشتيت وإذكاء ريح الفتنة والاقتتال والانتحار الجماعي؟!
*وإذا كانت الصيغ السياسية التي جربت حتى الآن لم تف بالغرض فلماذا لا ينصرف الفكر والجهد والبحث إلى صيغ مناسبة تتلاءم وطبيعة المرحلة وأهداف العمل الوطني بحماية وحدة البلاد وشعبها؟
*وإذا كنا قد حسمنا الأمر وألغينا بالفعل اتفاق 17 أيار مع العدو الإسرائيلي فلماذا لا نقدم للناس الإطار الجامع لهم ولنضالاتهم التي أسهمت إسهاماً مؤكداً في إسقاط هذا الاتفاق؟!
لماذا يقف الحكم الذي اتخذ قرار الإلغاء مكتوف الأيدي وكأنه أدى قسطه للعلى، فلا حركة ولا تحرك لا على المجال الدولي ولا على المجال العربي ولا حتى في النطاق المحلي؟!
وألف لماذا ولماذا وإلى متى وحتام تتهاطل علينا من السماء والأرض والطائفيات والمذهبيات والخطة الإسرائيلية.
فمن المتصدي؟! ومن القادر بعد على التصدي؟!
من الذي يعيد رفع الراية، راية الوطن، لا الطائفة ولا المذهب، ولا اختلاف الغرض؟!
من المبادر؟!
من القادر على كسر جدار العجز والتهيب ومتعة البطالة السياسية وأساساً على ضرب الوحش الطائفي؟!
والسؤال يملأ بيروت والوطن، بحثاً عن رجل أو رجال قادرين على القيام بعبئه الثقيل،
ولا مجال للانتظار طويلاً، لأن العدو يعمل ولا ينتظر منا غير ما يتلقاه في الجنوب،
فهل من يحمل الراية؟!.. هل من يقول : ها أنذا؟! هل من يقول قول ديغول ذات يوم، ومن موقع المحرر لا المستسلم: أنا فرنسا؟!