“يا أقدس الناس،
أكتب إليك حيث أنت، ومن حيث أنا، ولست أعرف أياً من العنوانين، فقد التهم الاحتلال الأماكن الأليفة ، وطمس ليل القهر والتهجير العناوين جميعاً، وألغت عصابات الحقد المسلح الأسماء محولة إيانا إلى أرقام حتى نتساوى معها في انعدام الإنسانية. ونتماثل في الطبيعة وإن اختلفت مواقعنا خلف أو أمام أسوار الصمت والضياع والرعب الأخرس.
أكتب إليك ولا عنوان لك أعرفه ولا عنوان لي يوصلك إلي.
ولكنني واثق إنك ستتلقين رسالتي وستنفجر فرحتك زغرودة مدوية، تزيد من يقين الناس إن الربيع قد انبجس خصباً ورواء يجلل الأرض بالوعد الأخضر.
واثق لأنني أعرفك:
فأنت أقوى من الحرب، هي العارضة وأنت البقاء، أقوى من القصف، النسف، الخطف، العسف والليالي الثلجية في المعتقلات، إسرائيلية كانت أم محلية ورسمية كانت أم “أهلية” بمعنى الانتماء للحرب الأهلية وليس للأهالي الذين أراهم يسكنون قلبك ويطلون على من عينيك الراعشتين بالدمع.
أقوى من عتم الظلم والألم وهم الولد المفقود في غمرة افتقاد الوطن ومقومات دولته.
ولأنك الأقوى فأنا قوي، وها أنا أكتب تاركاً للريح والشمس وعصافير الربيع المرقشة أن تحمل إليك هذه القبلة في عيدك: عيد الأرض والقمح والخصب والعطاء، وفجر الغد الآتي.
أكتب إليك حيث أنت، يا أمي،
وهل تحتاج رسالة إلى أم، إلى عنوان وموزع بريد؟!
أما الجواب فعندي: بقلبي أرتله كل لحظة، وهو الذي يعصمني ويحميني من الانحدار أو الانهيار.
ولا أكتمك إنني مررت بلحظات ضعف كثيرة، وإنني كفرت فتشهيت الموت غير مرة، ودهمني اليأس والقنوط حتى كدت أسقط.
لكن صورتك، صوتك، طيفك، شيئاً منك أحسه ولا أستطيع وصفه أو تحديده، كان يمتد تحتي – فجأة – شبكة تمنع سقوطي، وترفعني من جديد إلى حيث أكون جديراً بك.
وكنت أستفيت من خدرالعذاب على لمسة منك تعيدني إلى الوعي بحقيقة ما يجري لي وحولي، فأحس إن محنتي هي بعض وجوه محنة الوطن، وإن صمودي بعض شروط خلاصه، فأتماسك لكي أكون جديراً به.
اعرف، يا أمي، إن قوى أخرى غير الاحتلال عاثت في الأرض فساداً وأكملت ما قصر فيه وعنه، ولكنني أحسبها عليه ومن ضمنه لكي لا يهتز إيماني بوطني وبأخوتي من أبنائه ، حتى لو أعماهم الحقد لفترة، أو سيرتهم الأهواء والمصالح وأوهام “الطوائف – الأوطان” في طريق الخطأ والخطيئة، فأبعدوني – بالقهر – عنك، وابتعدوا – بالأمر – عنا جميعاً.
واعرف إن سجاني أو مختطفي أو المتسبب في اعتباري، مفقوداً “قد لا يكون إسرائيلياً بالهوية، ولكنني أجزم إنه إسرئايلي بالهوى والغرض، فهو لم يتقصدنا وحدنا بالأذى حين فرق بيننا. وإنما أذى الوطن نفسه وعرقل المسيرة المباركة التي نتوقعها لاستعادة وحدتنا الوطنية التي هي شرط التحرر والسيادة والاستقلال وإقامة وطن حقيقي فوق الـ 10452 كلم مربع.
وما لم تكن هذه الكيلومترات المحدودة أرضاً لوطن للإنسان فما قيمتها؟ وما أضيقها وأتعسها إن لم تبرر ذاتها بمناخ الحرية والعدل والمساوى بين مستحقي نعمة الانتماء إليها بما هي – هم وليس الغاصب أو الدخيل أو السمسار الذي يتخذها وسيلة للاتجار وكنز المال الحرام.
أمي،
لقد قرب زمن “العودة”… أليس بك يبدأ الربيع ويكون؟!
واي ربيع للوطن يكون في غياب شبابه؟!
ليس ضرورياً أن أذكرك بأحواض الورد والبيلسانة والياسمينة التي تمنع الوافدين إلينا بعض عطرك،
ولكنني أرى ضرورة تذكيرك بأن تهتمي بتناول دوائك، قبل النوم، فمؤكد إنك نسيته وأهملت استكمال علاجك،
وانتظريني مع أول رف سنونو يقتحم العلية ليعشش في جدرانها وخلف جسور السقف،
فالاحتلال إلى زوال، والوطن مثلك باق، وأنا فيك وفيه بمقدار ما أنا منك ومنه،
وإلى لقاء قريب عند عين النرجس،
(مع سلام خصوصي للتي تعرفين وتحبين مثل حبي)..
ولدك المحب
(……..)
ملحوظة: إذا أردتم أن تبعثوا إلي ببعض الأغراض فلتكن على عنوان “معتقل أنصار”، فكلنا فيه، في انتظار أن يتحرر الوطن، وهو الاسم الفعلي لأي معتقل آخر في أرض الوطن السجين،
ملحوظة أخرى: رفاقي هنا أصروا أن يبعثوا إليك بتحية “كل سنة وأنت طيقبة، يا ست الحبايب”، معتبرين إن كل أمهاتنا واحدة، وهم يقبلون معي يدك الطاهرة.
ملحوظة أخيرة: سمعنا إن فصل الأمطار والثلوج كان عظيماً، هذا يعني إن “الموسم” سيكون وفيراً وإن أيام الخير ستعود. مباركة أنت يا أم الخير.
طبق الأصل