أسوأ ما في “إنجازات” الحاضر أنها تكاد تضيّع المستقبل العربي، خصوصاً وأن أحداً في هذه الدنيا الواسعة لم يُعد نفسه جيداً لا للذين كان ولا للذي سيكون.
وأسوأ مواجهة لما يجري أن تتم بطريقة “المع” إلى حد التمجيد أو “الضد” إلى حد التخوين وإبقاء الأمة في سديم الأحكام المطلقة، معطلة العقل والفكر، محظورة عليها مناقشة مصيرها، مطالبة بأن تبقى في موقع الشاهد الأخرس يأخذها حكامها من الحرب، والكفاح المسلح إلى الصلح المنفرد والاتفاقات السرية فلا تعترض وتحرم من حق النقض، ولو في الغد البعيد، حتى لو كان الصمت سينتهي بتكفيك عرى وحدتها وتدمير قضيتها الجامعة واغتيال حركتها القومية المتعثرة.
أمس، وفي القاهرة، قدم الزميل الكبير محمد حسنين هيكل نموذجاً راقياً للمناقشة المطلوبة والضرورية جداً حول المستقبل العربي في ضوء “اتفاق غزة – أريحا أولاً” بانعكاساته المحتملة على الفكرة الواحدة الجامعة (بين العرب) والقضية الواحدة الجامعة، مع استدراك حول الدور الواحد الجامع لإدارة حركة المجتمع العربي (دور مصر)… (محاضرة هيكل ص 10-11).
ومع اختلاف السياق فقد التقى هيكل مع الرئيس سليم الحص في ما طرحه من أسئلة وهواجس في مقالته المنشورة في “السفير” أمس الأول (الثلاثاء)، وتركز الاستنتاج المشترك على مطالبة العرب بأن يعيدوا صوغ الفكرة القومية وإعادة تحديد قضيتهم الجامعة وكذلك تحددي السلام الذي يريدون حتى لا يظهروا وكأنهم ضد السلام بالمطلق في حين أنهم لا يملكون خيار الحرب، ولا هم يستطيعون أن يبقوا في حال جمود بينما تتأكل آمالهم وثرواتهم وأراضيهم ويسقطون من ذاكرة الدنيا أو يتهافتون على “أي” عرض فيندثرون.
على أن محمد حسنين هيكل قد مضى في الاستدلال بمعطيات الحاضر إلى حد توصيف أولي لما أطلق عليه “الحقبة الإسرائيلية”، والتي يرى إنها قد جاءت في أعقاب “الحقبة السعودية” التي امتدت لعقدين (السبعينيات والثمانينيات) مرتكزة إلى الطفرة النفطية وإلى التعثر الذي أصاب الحركة القومية فأضعفها وأربكها وجعل وراثة “الحقبة المصرية” التي امتدت بدورها عقدين (الخمسينيات والستينيات) ممكنة…
وفي تقدير هيكل “إن الوجه الآخر للصراع العربي – الإسرائيلي سوف يتبدى سافراً أكثر فأكثر، فهذا الصراع له وجهان: فلسطين وإسرائيل، وإذا جاز أن نفترض أن الوجه الفلسطيني في الصراع سوف يبتعد في المرحلة المقبلة، بعد الاتفاق، فإن الوجه الإسرائيلي منه سوف يزداد سفوراً وبروزاً”.
وإذا كان سليم الحص قد رأى الديموقراطية وتعزيز دور الإنسان العربي، بل الاعتراف بهذا الدور الذي لا يعوّضه أحد، بين شروط الاستعداد لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة، فإن محمد حسنين هيكل قد افترض أن “الحقبة الإسرائيلية سوف تمر سريعاً لأن حقائق الجغرافيا والتاريخ سوف تعود إلى تأكيد نفسها، خصوصاً إذا استطاعت الأمة أن تساعد هذه الحقائق بالمحافظة على سلامة وعائها الحضاري، وبإعادة تأسيس شرعية السلطة في كل بل عربي حتى تتسق حركتها مع روح العصر، وبجهد مطلوب لتجديد الفكر العربي حتى تتسق رؤاه مع آفاق المستقبل”.
الإنسان العربي، تلك هي القضية.
فالإنسان العربي مغيب بالأمر، أو غائب بالتعود، عن التأثير في ما يجري، سلباً أو إيجاباً. إنه مع “أي” حل كتعبير عن يأسه من نفسه وعن عجزه عن تغيير ظروف حياته، وأساساً عن تغييير سلطته التي تحكم من خارج شرعيته أو تزورها وتنتحلها لنفسها مفيدة من خرسه الإجباري أو من انكفائه داخل قوقعة همومه اليومية بحيث لا يجد متسعاً لممارسة ترف الاهتمام بالشأن العام.
وليس مبالغة القول إن هذا الإنسان العربي قد أخرج من السياسة من باب فلسطين، في حين أنه قد دخل السياسية أصلاً بسبب فلسطين ومن أجلها وتحت شعار تحريرها كخطوة واسعة على طريق توحيد الأمة.
وصحيح إن “كلنا مسؤول”، كما يقول هيكل عن الماضي، ولكن كيف السبيل لأن يكون كل مواطن عربي مسؤولاً عن المستقبل؟!
وصحيح أيضاً أن “ليس هناك مستقبل لأي قطر عربي خارج الإطار العربي الواسع”، كما يقول هيكل، ولكن الأنظمة القائمة لا تنفك تقاتل المستقبل في صدور “رعاياها” في أفكارهم وحتى في أحلامهم وهي تقاتل أكثر ما تقاتل فيهم عروبتهم، فمتى تهجنوا استكانوا وتركوها تأخذهم إلى حيث تشاء… فإذا “الرابطة الخليجية” تنتهي بالإبحار في اتجاه الهند، وإذا “المغاربية” تشد عبر المتوسط في اتجاه الغرب، وإذا مصر تعزل داخل “أفريقيتها” ولا قضية، وإذا الطوق الإسرائيلي يشتد عبر فلسطين على “سوريا الطبيعية”، وإذا الكيانيات تندفع في اتجاه التحالف مع العنصرية الأقوى: الصهيونية.
وكم كانت ذكية ومخلصة تلك الملاحظة التي توقف أمامها هيكل وهو يتحدث عن مصر: “لا أريد ولا أتمنى أن أجد مصر تكرر، مع اختلاف الظروف وطبائع العلاقات، ذلك الخطأ الذي وقعت فيه تركيا حين تخلت عن الخلافة وتركت مقدمة العالم الإسلامي لتلحق بذيل أوروبا…”.
يتصل بهذه الملاحظة الإشارة الدقيقة إلى أن مصر (السادات) كانت السابقة إلى “الصلح المنفرد”، وإن ذلك بين عوامل عربية أخرى كثيرة، كان بين الممهدات للصلح المنفرد الثاني (الإسرائيلي – الفلسطيني)، ثم الثالث (الأردني – الإسرائيلي)، وإن اتفاق رابين – عرفات “نهاية مرحلة كان لا بد أن تؤدي إلى شيء ما”، وإن مجرد الذهاب العربي إلى مدريد كان تسليماً اضطرارياً أو خضوعاً لمنطق “الحقبة الإسرائيلية”، في ظل الظروف العربية والدولية القائمة.
إعادة صوغ الفكرة القومية.
بل إعادة صوغ الحياة العربية بما يعطي مكاناً فيها للإنسان العربي،
وطريفة هي مطالبة هذا الإنسان بأن يباشر مقاومته للتطبيع في حين أن أنظمته لا تعترف به ولا بإرادته أصلاً، وهي قد عملت ما في وسعها لتجعله يقبل “أي شيء” منها ومن الآخرين، لقد “طبعته” فبات مهيأ لقبول أي تطبيع!
لقد شوهته بالقمع وبالإعلام الوحيد الصوت وبتزوير الحقائق أو إخفائها عن نفسه وبلاده كما عن عدوه، ومنعته من أن يحقق ما يقدر عليه من التقدم، فالتعليم بائس والجامعات – بمجملها – تكايا لتخريج العاطلين عن العمل، ومراكز البحث والمعاهد العلمية يقتر عليها فلا تعمل إلا بأقل طاقتها، والمخابرات أقوى من الجيوش ووزارة الداخلية أهم من وزارات التعليم والبحث العلمي والثقافة والإعلام مجتمعة الخ…
تتزايد المهمات الصعبة والثقيلة، وتتزايد بالمقابل العقبات التي تمنع المواطن العربي من إثبات وجوده وممارسة حقه في تقرير مصيره، وتتزايد أشكال الكبت والقمع والإرهاب الحكومي بحيث يصبح “العدو” مقبولاً، إذ يبدو في عين الإنسان العادي وكأنه ليس أبشع بكثير أو أقسى من نظامه الحاكم بأمر الله!
والمهم أن يتاح لهذا الإنسان العربي أن يفكر وأن يناقش وأن يبدي رأيه ثم أن تكون له حرية الحركة والتعبير عن موقفه… ولو بتأييد الاتفاقات والمفاوضات والأنظمة التي مهدت وهيأت لـ “الحقبة الإسرائيلية”.
وإطلاق النقاش خطوة أولى على طريق طويلة، لكنها حاسمة.
فتعالوا إلى النقاش حتى لا تهدر أعمارنا مرتين، ودائماً في ظل الاستكانة البكماء.