على امتداد 18 شهراً مثقلة بنتائج “عاصفة الصحراء” وتداعياتها الكارثية على المستوى القومي، ما زال “الفقهاء” في علم السياسة والمعاهدات في السعودية والكويت اساساً، حائرين في تفسير “إعلان دمشق” الذي كانوا متعجلين لتوقيعه في أواخر آذار 1991، وبينما دخان الحرب يملأ الأجواء العربية جميعاً وجثث “قتلانا” تغطي الصحراء البلا حدود.
كأنما ندم “البنادرة” على توقيعه، في لحظة كانوا يستشعرون فيها ضعفاً يضطرهم إلى قبول بأخوتهم “الفقراء” سوريا ومصر، والذين لولاهم لما أمكن “تمرير” أو “تبرير” العاصفة التي أطاحت بمستقبل الأمة، بذريعة معاقبة صدام حسين على خطيئته المميتة بغزو الكويت.
كأنما استفاق “البنادرة” إلى “تورطهم” متأخرين، فما دام قد استقر”المحرر” الأميركي بين ظهرانينهم، وأمنهم على عروشهم وثرواتهم (؟!) وتعهد لهم بتدمير العراق وتشليعه بحيث لا تقوم له من بعد قائمة، فما حاجتهم إلى “جميل” العرب الطماعين والحاسدين والذين لن يقنعوا – غداً – بأقل من المشاركة في القرار السياسي وربما المالي، وهذا هو الأهم والأخطر؟!
وبدأت المماحكة ومحاولة لحس التوقيع وهي لما تزل مستمرة،
عقدت اجتماعات، وتليت مطالعات، واستعين بخبرات فقهية أجنبية وعربية، وابتدعت تفاسير مغايرة للتعابير ولكنها مطابقة للنوايا.. ثم رفعت الجلسات أو علقت على أمل استئناف البحث بعد العودة إلى “أصحاب القرار”،
في هذه الأثناء كانت صفقات التسلح تترى بالمليارات، وكانت الاتفاقات الأمنية، وبعضها يسمح بقواعد أجنبية، وبعضها الآخر أقرب إلى معاهدات الحماية، وأقلها يتضمن نصوصاً تفرض نوعاً من الانتداب للمحرر الأميركي على معظم الجزيرة والخليج.
وفي هذه الأثناء أيضاً كانت صفقات إعادة البناء والتجهيز تعطى للشركات الأميركية الكبرى، حصراً، وكان يمنع على أي طرف عربي أن يحصل على أي عقد، مهما كانت قيمته هزيلة… حرصاً على تكريس الثروة العربية بالكامل لدعم اقتصاد “الأصدقاء الأميركان” الذي يشكو أزمات حادة لا أمل في علاجها.
والكل يتندر اليوم، في الخليج وخارجه، بأن “الصفقة” الوحيدة التي نالتها مصر، وقد كان جنودها أول من دخل الكويت تحت راية “التحرير”، وسقط لهم شهداء، هي “صفقة” ترميم جدار قصر الأمير الذي يحمل على مدخله الحكمة الخالدة: “لو دامت لغيرك ما آلت إليك”!
حتى صفقات “التعهد من الباطن” ظلت ممنوعة على المقاولين العرب، بما في ذلك “توريد” العمال… ولقد وقع استثناء وحيد، ودائماً في السعودية والكويت، مع فئات محددة من المتعهدين والعمال اللبنانيين، مع اشتراط مؤسف ومخز: ألا يكونوا مسلمين!!
“إعلان دمشق” مجمد،
وتفتيت العراق وتمزيقه إرباً مستمر، وأخر المبتكرات التي يجري التسويق لها أن بعض الأقليات العرقية الآخرى “تطالب” أو يطالب لها “بمناطق أمنية” كما الأكراد… وثمة من يتحدث الآن باسم التركمان، وقد نسمع غداً من يطلب “الحماية” للكلدان ثم “الآشوريين” و”الصابئة” و”اليزيديين” إلى آخر ما في “المتحف” العراقي من أقليات عرقية ودينية ومذهبية.
وبعض القوى في السعودية أساساً ومعها الكويت يتآمر على وحدة السودان، فيساعد – بالمال والسلاح – قوى الانفصال فيه (برغم أن الحكم متهم بأنه إسلامي في حين أن الانفصاليين هم من غير المسلمين بكتلتهم العظمى)،
وفتات التبرعات لمسلمي البوسنة والهرسك، وهم ضحايا صراع دولي خطير، في حين يهلك أهل الصومال “العرب” بالملايين جوعاً وعطشاً فلا يتكرم عليهم الأسخياء بالتبرع لحيوانات لندن ولضحايا إعصاء “أندرو” في فلوريدا ولويزيانا، بأي قرش أو بأية “كرتونة” تحمل صورة خادم الحرمين الشريفين أو يتصور إلى جانبها أحمد عبد العزيز الجاسم الكويتي،
وصفقات سلاح مستهلك و”منسق” بالمليارات، نعقدها السعوديةبهدف معلن هو: دعم الاقتصاد الأميركي، ثم تلحق بها الكويت، بينما “عرب” مصر يعيشون في المقابر، و”عرب” لبنان يعيشون في البيوت المهدمة، و”عرب” الجزائر لا يجدون بيوتاً ينامون فيها الخ…
هذا إذا ما نسينا ما يقع للفلسطينيين الذي خذلتهم “النخوة”العربية فساهمت في اغتيال انتفاضتهم، في حين أفسد “الكريم” العربي المبالغ به، في وقت سابق، ثورتهم المجيدة،
أكل ذلك من أجل الصلح مع إسرائيل؟!
وهل صلح الإذعان يمكن أن يفيد في حماية العروش مستقبلاً؟!
وهل إذا أضعف العرب حتى باتوا يتسلون من عدوهم “السلام” ستكون تلك ضمانة لعروش الخائفين على عروشهم في السعودية والكويت وغيرهما؟!
لماذا هذا الموقف المتعنت والذي يجسد قمة التنصل من أي التزام له سمة “قومية”؟
ألا يبدو هذا الموقف المهدد لنظام شديد الأميركية كالنظام المصري تشجيعاً لما يسميه سلفيو السعودية “تطرفاً أصولياً” في مصر؟!
وبعيداً عن المفاهيم الأخلاقية، هل للبنادرة فعلاً مصلحة في إضعاف بلد كسوريا تكافح لاستعادة أراضيها وحفظ الحد الأدنى من الحقوق العربية؟
إن لبعض الخليجيين الآخرين رأياً آخر في الأمر، وهم يرون في “إعلان دمشق” عنصر توازن ضرورياً لكي تكون سياستهم مقبولة،
فهل يكون اجتماع الغد في الدوحة نقطة تحول في الموقف عن “إعلان دمشق”، وما يمثله هذا “الإعلان” من عودة إلى الطريق الصحيح… طريق المصلحة القومية العليا والسلامة القطرية في آن؟!
فإعلان دمشق ليس أكثر من إعلان عروبة الجزيرة والخليج!
وليس للجزيرة والخليج – بالمدى المتوسط والبعيد – من ضمانة غير هذه العروبة.
وسلام على من أتبع الهدى، يا بنادرة العرب!