حكمت “المحكمة الإسرائيلية العليا” بإعدام “مؤتمر السلام”!
فلقد جلس إسحق رابين، يوم أمس، على منصة القضاء، وتصرف وكأنه رئيس محكمة النظام العالمي الجديد فحكم بالإقامة الجبرية على مجلس الأمن الدولي، وبنفي الأمم المتحدة، وبالأشغال الشاقة المؤبدة على المفاوضات الثنائية بين العرب والإسرائيليين برعاية الولايات المتحدة الأميركية (وروسيا).
بل لقد حكم أيضاً على إمبراطور الكون بيل كلينتون بأن يوضع تحت الوصاية فلا يتصرف في أي أمر يتصل بما يسمى “أزمة الشرق الأوسط” إلا بعد العودة إليه باعتباره “ولي أمره الشرعي”.
كل ذلك بحكم محكمة مبرم وغير قابل للاستئناف أو النقض!
هو القاضي وقد قضى!
وأية قيمة تبقى لمؤتمر “السلام” (وراعييه، ناهيك بأطرافه وضيوف الشرف فيه كمثل أمين عام مجلس التعاون الخليجي وتابعه الخاص بندر بن سلطان!!)، طالما أن قاضياً إسرائيلياً يستطيع نسف حيثياته ومرتكزاته الأصلية، وبالتالي استباق نتائجه المحتملة (؟!) مهما كانت هزيلة؟!
إنه حكم قاطع: لإسرائيل، ولإسرائيل وحدها، حق القرار.
هي وحدها تقرر في مختلف الأمور المطروحة: أهداف المؤتمر وغاياته، إطاره، شكله، عدد المشاركين فيه ومواقعهم، ثم ومكان التفاوض!
وهي وحدها تقرر مستقبل احتلالها للأرض العربية،
أما بالنسبة لفلسطين والفلسطينيين فالقرار واضح عبر أمثولة المقتلعين من أرضهم والمشلوحين في العراء وصقيع التهجير في اللامكان!
لقد رحل إسحق شامير الذي اضطر إلى قبول الشكل ورفض المضمون، مداراة لغضب جورج بوش وإداراته التي كانت مضطرة “لمسايرة” العرب، ولو بما يحفظ ماء وجوه سلاطينهم الذين استدعوها ودعوها إلى إطلاق “عاصفة الصحراء” ضد الأمة كلها!
ورحل الآن جورج بوش نفسه وإدارته التي أعطت العرب أكثر مما يستطيعون أن يأخذوا وأكثر مما يسمح لهم ميزان القوى بأن يطلبوا،
إذن فلتعد الأمور إلى نقطة الصفر، ولتستعد إسرائيل زمام المبادرة، ولتفرض شروطها على هذا القادم الجديد إلى البيت الأبيض والذي لا يدين للعرب بأي جميل، والذي يستطيع إسيحق رابين أن يبتزه إلى أقصى حد، خصوصاً وإن العناصر الصهيونية تحيط به إحاطة السوار بالمعصم وتشله عن الحركة في أي اتجاه قد يؤذي مصالح إسرائيل أو أطماعها التوسعية.
لقد سقطت التسوية بشروط جورج بوش المقبولة عربياً (ولو بالاضطرار) والمرفوضة إسرائيلياً، وأن تعذر إعلان الرفض ولم تتعذر ممارسته.
المتاح الآن “تسوية” بشروط إسحق رابين، ودائماً تحت الرعاية الأميركية.
وفي ظل العجز العربي عن الرفض (أي عن الحرب) فأما أن يموت “مؤتمر السلام” ببطء، أو أن تتفاقم الخلافات العربية – العربية، خصوصاً مع تزايد الضغط الأميركي، فينهار ما تبقى من التماسك الاضطراري، وتروج سوق الحلول المنفردة!
لا خيار إلا أحد أمرين: إما الاستسلام الجماعي وإما الصلح المنفرد، الذي يؤدي – بالنتيجة – إلى الاستسلام الجماعي!
… وإلا فدرس العراق قابل للتكرار، وإن بصيغة مختلفة،
… وإلا فإن احتمالات تفجير سلسلة من الحروب الأهلية العربية بدءاً بالجزائر مروراً بمصر (والسودان) وصولاً إلى اليمن لا تحتاج إلى كبير عناء!
باختصار يمكن القول أن قائمة المقتلعين ستطول إلى ما لا نهاية، ولن يكون جميع المقتلعين الجدد من أرضهم فلسطينيين، بل سيكون بينهم “ضيوف شرف” منهم: “مجلس الأمن الدولي، الشرعية الدولية، “مؤتمر السلام”، المفاوضات الثنائية وربما… جورج بوش وجيمس بيكر!
الدماء أغلى من المال
بعدما تم دفع المليارات للأخوة الأتراك امتناناً لدورهم في “تحرير الكويت” ودرء الخطر عن مملكة الصمت الأبيض والذهب الأسود، ها هو نائب رئيس الوزراء وزير خارجية “الإمارة المحررة” يتحرك ليجول في دول إعلان دمشق… ربما بطلب المساعدات لإعادة إعمار “سوق المناخ” وترميم ما تهدف من سوق الاستثمارات المالية الكويتية بما في ذلك صندوق الأجيال (إذا صدقنا ما يقال في إسبانيا وبريطانيا والكويت ذاتها)
والحقيقة أن اللبنانيين مثلهم مثل سائر العرب يتفهمون تماماً هذا السخاء الكويتي – السعودي مع تركيا، برغم أنه يتجاوز حد المعقول.
لكن ما لم يفهموه هو حكاية أن يذهب هذا السخاء لتدعيم الصناعات العسكرية التركية وإعادة بناء الجيش التركي، بينما تعمل السيوف والسكاكين – عبر تركيا – في تمزيق قطر عربي عزيز هو العراق شر تمزيق!
كذلك فهم لم يفهموا معنى أن تشتري تركيا طائرات حربية أميركية، بأموال عربية، ثم تبيعها إلى العرب، فتجني الربح منهم مرتين: في ثمن الشراء وفي ثمن المبيع، ناهيك بالبين بين!
ثلاثة مليارات لتركيا؟!
ولا حتى مئة مليون دولار للبنان وحكومته الجديدة برئيسها الذي عاش أكثر من نصف عمره في السعودية ولها؟!
ثم ماذا عن دمشق والقاهرة، وقد قدمتا لحرب “التحرير” ما هو أغلى من الدم ذاته: الموقف السياسي الذي بلغ من أهميته وخطورته أنه غطى “عاصفة الصحراء” برمتها؟!
وبرغم فصاحة الشيخ صباح ودهائه وحنكته المجربة فمن المشكوك فيه أن يستطيع إقناع دمشق أولاً، ومن ثم القاهرة، بأن بلاده قد حفظت حقوق الأخوة وإنها ترد على التحية بأحسن منها، بينما المليارات تتجه إلى أنقرة… والدولار “أصدق أنباء” من الخطب العاطفية ومن التصريحات ذات الرنين “القومي”!
إن شعب تركيا عزيز على العرب،
لكن شعب سوريا ، أو مصر، أو لبنان، أو أي قطر عربي آخر، أعز بما لا يقاس أو يفترض أن يكون كذلك، وان يترجم التضامن أو الإيمان بالمصير المشترك بلغة الأرقام.
وجيش تركيا قد لا يكون مصدر خطر على العرب، أقله في المدى المنظور،
لكن الجيوش العربية، لاسيما تلك التي ما تزال تحمي ما تبقى من الصمود العربي في وجه التوسع الإسرائيلي، وفي الطليعة منها الجيش السوري، أولى بالدعم وبتوفير مقومات الصمود، لاسيما وقد عز الصديق (على المستوى الدولي).
كثير هذا،
تخل عن السياسة، بل إنه في بعض الحالات وصل إلى درجة التواطؤ مع العدو، كما في المفاوضات متعددة الجنسية،
… ومساهمة في الحصار الاقتصادي، لقلاع الصمود الأخيرة، فليس للامتناع عن المساعدة الجدية إلا مثل هذا المعنى،
… ثم تعزيز للجبهات التي يمكن أن يجيء منها الخطر؟!
شيء من النظر يا شيخ صباح!
بل شيء من الفطنة والدهاء يا أيها العتيق في عالم المناورات والتكتكة وبراعة التخريج؟!
والمال قد يحقن الدماء، وقد يجرح استخدامه فتسيل الدماء أنهاراً،
وتبقى الدمار أغلى من المال، كل المال… أيها الغالي!