ما ابعد الشقة بين 9 حزيران 1967 و9 حزيران 1974، حتى لكأنها سنوات ضوئية هذه السنوات السبع الفاصلة بين وقفة الصمود المجيدة والانتظام في “طابور الشرف” لاستقبال المستر ريتشارد نيكسون!
قبل 7 سنوات، اندفعت جماهير الأمة العربية تمزق ليل الهزيمة بمضاء إرادتها، وتلفظ دعاة الاستسلام والتخاذل والتفريط. وهدر صوتها الغاضب المثلوم بالفجيعة في أربع رياح الأرض العربية: لا صلح، لا مفاوضات، لا اعتراف بإسرائيل… وتراصت صفوفها على أرض المعركة تحت شعار: لا مهادنة مع الإمبريالية – الأميركية تحديداً – ولا لقاء مع الرجعية العربية المرتبطة بها، إلا في حدود استعدادها للمشاركة في مواجهة العدو القومي، دفاعاً عن وجودها ذاته.
واليوم، يريدوننا أن نلقي السلاح، بلا وداع، وأن نخرج لاستقبال الصديق الكبير، حليفنا في معركتنا المريرة ضد إسرائيل والصهيونية، رفيق نضالنا ضد الرجعية، وحامي جبهة صمودنا في المواجهة الشرسة مع الإمبريالية: المستر ريتشارد نيكسون!
وبدلاً من الهتاف الحميم، في تلك اللحظة الخالدة: ابق يا نصر، نريدك أن تبقى، اثبت في موقعك وسنقاتل معك، لن نستسلم، ولن نتخلى عن راياتنا!
بدلاً من هذا الهتاف الحميم نكاد نسمعهم، اليوم، يهمسون لنا: هيا افرنقعوا، حيا انفضوا ، اطووا راياتكم وامضوا بعيداً، اخلوا الساحة واصمتوا.. نريد، أخيراً، أن ننام. آن لنا أن نرتاح من وعثاء النضال. عشرون سنة تكفي!
والمستر نيكسون يلقي، من فوق بساط الريح نظرة فرح وسعادة بالغة على الناس اللي تحت من أصدقائه العرب: ها هي أرض الشغب والثورات والفدائيين وعبد الناصر والاضطرابات قد هدأت أخيراً، وها هي ناقلات النفط تمخر العباب وعين الله ترعاها من الحظر، بعدما ثبت للعرب المؤمنين أن الحظر رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه، بل واستغفروا عما اقترفوا من ذنب، في لحظة غي، وهم لا يعلمون!
ما أبعد الشقة بين اليوم والبارحة: بين مهزوم مهيض الجناح يرفض السقوط ويرفض مغادرة الميدان إلا بعد أن يصفي آثار العدوان، تمهيداً لاستئناف النضال على طريق الأهداف الأصلية للأمة العربية، وبين منتصر – ولو جزئياً، ولو يفعل كونه لم يهزم – يقرع جرس الانصارف للمناضلين واللمقاتلين عموماً، متصوراً أن المصالحة مع الولايات المتحدة الأميركية تحقق ما عز تحقيقه بقوة السلاح من الانسحاب الشامل الكامل، إلى إعادة تعمير كل ما هدمته الحرب، إلى تدعيم الاقتصاد المثخن بالجراح، إلى تأمين الحقوق الوطنية المشروعة لشعب فلسطين، الراهنة منها والتاريخية!
كأنما كان جمال عبد الناصر، الرجل والقائد والرمز، هو العائق والمانع.
أو كأنما كانت الجماهير التي أمنت به فأعطته شرف قيادتها هي المعطل لتحقيق غاليات الأماني!
وهكذا فما أن غاب عبد الناصر، وتم تغييب الجماهير، بالتخدير أو بالتحذير، بالترهيب أو بالترغيب، حتى صارت كل المستحيلات ممكنات بدءاً بدعوة شعب فلسطين إلى أرضه، وانتهاء بتشريف المستر نيكسون إلى المنطقة التي كانت أرضاً حراماً عليه كما على أسلافه أجمعين.
في 9 حزيران 1974، وبعد كل ما كان، لا تجد الجماهير العربية ما تقوله في استقبال المستر نيكسون غير هذه العبارة:
“اعذر تقصيرنا، أيها الضيف الكبير، فشبابنا الذي كان يمكن أن يشارك في استقبالكم، ذهب إلى سيناء ولم يعد، وذهب إلى الجولان ولم يعد”.
… أما جمال عبد الناصر فباق، بقاء هذه الأمة المجيدة، وأهداف نضالها العظيم والطويل والمستمر، والذي لم تلغه أربع حروب، لن تستطيع إنهاءه زيارة أحد جنرالات العدو في هذه الحروب الأربع!