عندما رفع جمال عبد الناصر، أثر الهزيمة وفي ظلها، شعار “الصمود” وألح عليه، قلب البعض شفاههم وهزوا رؤوسهم باستنكار: أهذا هو كل ما يعدنا به ويدعونا إليه… الصمود؟..
ومرت الأيام، وغاب جمال عبد الناصر، واشتدت الحاجة إلى مزيد من الصمود في وجه المناورات والمؤامرات التي كانت تدبر لهذه الأمة المكلومة الكرامة، المهيضة الجناح.
وأخذ الكلام عن الصمود يبهت تدريجياً، وأصاب الشحوب المرضي إرادة الصمود ذاتها، وبدأ ترويض الجماهير لاقتلاعها من موقع رفض الهزيمة عن طريق تخديرها بالوعود والعهود والرسائل والاتصالات.
ولما قامت حرب رمضان كان المواطن العربي قد وصل إلى حد من انعدام الثقة بالنفس (ناهيك بالحكام والحكومات) جعلته لا يصدب خبر قيامها، إلا بعدما سمعه من إذاعات العدو وأصدقاء العدو.
أما انتصارات الأيام الأولى فقد زادت من مخاوفه وتوجسه وريبته من طبيعة الجو السياسي الذي أحاط بالعرب، علماً بأنه لا في تلك اللحظة ولا قبلها كان يداخله شك في قدرات المقاتل العربي، وبسالته.
وكان ما كان في 22 تشرين الأول (أكتوبر) ثم في ما تلاه من أيام،
وأضاف المواطن العربي إلى قائمة آلاف الشهداء في حرب رمضان حرب رمضان ذاتها.
ذلك إن غياب الصمود قد سمح لأعداء هذه الأمة أن يسلبوها إيجابيات حرب رمضان، مستغلين فهمهم لطبيعة الحكام الذين قادوها، ولأهداف هؤلاء منها، ومدى محدودية هذه الأهداف:
“أيريدون تحريك المشكلة الضاغطة على أوضاعهم الداخلية؟.. حسناً، سنحركها ونتقاضى نتائج الحرب ذاتها ثمناً للتحريك!
“أيريدون غطاء براقاً لقبولهم بالهزيمة؟.. حسناً، نأخذ الانتصارات الفعلية التي حققها جنودهم ونعطيهم بعض التطمينات لأوضاعهم الداخلية، وسنعطيهم “بريق” الانتصارات بالكامل!”
وهكذا، خطوة بعد خطوة، تم الالتفاف على الحرب ونتائجها وإذا العرب، كرة أخرى، أمام الشروط الإسرائيلية التي واجهها العرب المهزومون عام 1967 بالرفض المطلق المؤكد باللاءات الثلاث الشهيرة.
أكثر من ذلك:
إن النظام الأردني الذي لا يستطيع الادعاء أنه شريط في حرب رمضان، وبالتالي في نتائجها، يقدم الآن على ما لم يجرؤ على الإقدام عليه في ظل الهزيمة وتداعياتها المنطقية، فيفاوض إسرائيل مباشرة ويتفق معها مفيداً من ضعف الموقف المصري – السوري بمواجهة الولايات المتحدة الأميركية.
لكأننا خضنا الحرب من أجل أن نفوز بالهزيمة كاملة!
فإسرائيل، التي لا تستطيع الادعاء بأنها خرجت من الحرب منتصرة، تتمتع الآن بحالة من الأمن لم تتمتع بها في أي يوم مضى… وإذا ما تم تكريس هذه الحالة، في واشنطن أو في جنيف، لا فرق، فستكون إسرائيل قد أفادت من انتصارها عام 1967.
وسيكون حكامنا قد وهبوها هزيمة عربية لم تحصل حقيقة.
وستغدو أميركا هي المنتصر الأكبر في حرب رمضان، إذ خرجت منها وقد حققت هدفين لم يتحققا لها أبداً من قبل وهما: ضمان استمرار استثمارها للنفط العربي وبشروطها (وبالطبع استمرار تدفقه إليها)، وضمان أمن إسرائيل.
ونكون على حد تعبير الشاعر الشعبي المصري قد “أخذنا سينا وخسرنا مصر” وسوريا والأردن (ولبنان) إضافة لفلسطين!
وإضافة إلى الشعار العظيم الذي كان يحصننا ضد احتمالات اكتمال الهزيمة: الصمود.
هذا، إلا إذا قالت جماهيرنا كلمتها، في اللذين وأدوا الصمود والحرب والأقطار التي اغتصبت حديثاً!