للاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني، “حزب” كبير بين عرب السلطة، واستطراداً فإن له حزبه اللبناني الذي أخذ يعلن عن نفسه مؤخراً برغم أنه “عتيق” في الحياة السياسية اللبنانية.
بل لعل هذا “الاتفاق” قد أتاح الفرصة للذين كانوا يُظهرون غير ما يبطنون من ولاءات ومواقف، ويسلكون غير ما تعودوا من السلوك، لكي يعودوا إلى حقيقتهم ومواقعهم الأصلية.
كان كثير من الساسة قد اضطروا إلى إظهار ولائهم لسوريا بعدما استوثقوا من انتصارها في لبنان وبقوة العروبة فيه وليس فقط بقوة سياستها وجيشها، أثر معركة اتفاق 17 ايار الشهيرة.
ولم يتورع بعض هؤلاء عن الانتقال فوراً من تل أبيب إلى دمشق، مبتدعين لأنفسهم أسباباً تخفيفية أو ذرائع كاذبة بمعظمها، مظهرين الاستعداد للتعويض عن غلطة العمر بالمبالغة في الولاء إلى حد إنكار ماضيهم أو التشهير به مقابل العفو عنهم حاضراً لكي يربحوا المستقبل.
ثم لما بدا أن دمشق قد اكتسبت مكانة مميزة في واشنطن، وهي الآتية من دهور من العداء الصريح والمكشوف للسياسة الأميركية في المنطقة، تنفس معظم السياسيين اللبنانيين الصعداء واعتبروا أن مشكلتهم قد حلت فلم يعودوا مضطرين إلى الحديث بلغتين مختلفتين إلى حد التناقض، وباتوا أكثر اطمنئاناً إلى غدهم طالما إنهم “على القائمتين”.
وبالطبع فلقد تبرع نفر من هؤلالاء للقيام بأدوار الشارحين أو الموضحين أو سعاة الخير، وتحدثوا الإنكليزية في واشنطن بلكنة سورية والعربية في دمشق بلكنة أميركية، واستمدوا مبررات إضافية لاستمرارهم بل وللمطالبة بمواقع أعلى من خلال ادعائهم القدرة على “الترجمة” و”السرعة في النقل” و”توصيل البضاعة إلى المنزل” و”الهمس في أذن الرئيس” أو دس الرسائل الخاصة جداً تحت وسادته باستغلال علاقة خاصة بزوجته أو سكرتيرته أو “سائس” كلبه(أيام بوش) وقطته (أيام كلينتون).
وفي قائمة المتصدرين للحياة السياسية اللبنانية الآن من يعتبر إنه قد حاز النعمتين، وإنه ربح الدنيا والآخرة، فوصل إلى النيابة والوزارة وانفتحت أمامه أبواب الرئاسات في حين لم يكن قبل حين شيئاً مذكوراً.
اليوم يتزاحم الساسة اللبنانيون على طريق واشنطن، ومن لا يذهب بشخصه يوفد من يتشمم ويتسقط له الأخبار عن موعد الفراق أو الطلاق أو الافتراق أو الاختلاف بين الإدارة الأميركية والقيادة السورية حتى لا يتعجل فيخسر ما هو فيه ولا يتأخر فيخسر ما يطمح إليه.
ولقد تزايد في بيروت عدد الذين يبدأون حديثهم أو تحليلاتهم أو تقديراتهم بجملة من نوع “قالوا لي في واشنطن” أو “سمعت في واشنطن” أو “أبلغني الأصدقاء في البيت الابيض أو في الخارجية الأميركية – وغالباً ما تستخدم التسميات بالإنكليزية”… وهؤلاء ذاتهم كانوا يبدأون حديثهم عادة بالقول: “قال لي الأخوان في دمشق” أو “سمعتهم في دمشق يقولون” أو “يعتقدون في دمشق” أو “لقد قرروا في دمشق…” الخ.
ولسوف يتزايد عدد العائدين من واشنطن، والعارفين بقرار “بيل” والذين سمعوا “من هيلاري” أو “من دنيس”، أو الذين فهموا من “وارن”، أما من “فهم” من “بوب – أدوارد دجيرجيان” فأكثر من أن يحصوا، ومن دفع أكثر عرف ويعرف وسيعرف أكثر!
المهم أن بعض أمراء السياسة ومشايخها ومحدثي النعمة في رحابها يتوهمون الآن أن شمس سوريا إلى أفول، وإن الحصيف هو من “يربط” مع الاتفاق الإسرائيلي –الفلسطيني وأبطاله الميامين.
وثمة بين هؤلاء مَن يفترض أن طريق تل أبيب باتت سالكة فطالما مهدها ياسر عرفات فيمكن للآخرين أن يسلكوها، وطالما أن الأميركي يتعهد السالكين بالرعاية فلا ضير عليهم ولا هم يؤاخذون.
الأخر أن في قمة لاسلطة من يتحيّن الفرصة للتملص مما التزم به تحت ضغط الحاجة ولانعدام البديل وحماية للذات أو إدخاراً للنفس للمرحلة المقبلة.
وليس سراً أن ثمة تحالفاً من نوع جديد بدأ ينشأ بين الذين قصدوا دمشق مكرهين وبين الذين استنكفوا أو قاطعوا حتى يحفظوا خط الدفاع الأخير فلا تقفل طريقهم إلى تل أبيب، وبين الذين انتظروا طويلاً حتى أمكنهم أخيراً أن يقصدوا تل أبيب عن طريق أريحا – عرفات التي تحصنها واشنطن وتحمي سالكيها، ولو من بعيد.
لقد تجمع من جديد كل أعضاء النقابة، نقابة المتضررين من الوجود السوري، أو من النفوذ السوري (وهو هنا النفوذ العربي) في لبنان.
وهم يستعدون لما بعد “العصر السوري” الذي يفترضون إنه على وشك أن ينتهي.
لقد جنوا ثماره، فلماذا يستمرون في حماية الأشجار الهرمة التي لم تعد تعطيهم ما يشبع نهمهم؟!
يمكنهم الادعاء أنهم قد اختاروا “الفلسطيني” بدلاً من “السوري” وهكذا فهم لم يخرجوا على عروبتهم وإنما فضلوا عرضاً على عرض، ليس إلا.
ويمكنهم الادعاء أنهم كانوا السابقين إلى تبني السياسة الأميركية والترويج لها وتمثيلها، وأنهم يمكنهم عبر واشنطن الوصول إلى تل أبيب (أو أريحا) وكذلك إلى دمشق، فلماذا إذاً المفاضلة بين المتماثلين طالما أن عاصمة الكون تحتضن الجميع؟!
ويمكنهم أخيراً الادعاء أن زمن الحرية والاختيار الحر قد جاء، وأنهم لم يعودوا مضطرين إلى التظاهر بغير ما يؤمنون به، وعلى هذا فهم أميركيون على سن الرمح، وإن على مشق إذاً هي أرادت أن تكسب أن تتفاهم معهم عبر واشنطن أو أن توسطهم لدى واشنطن فيأتون بالأمان والسلامة، فهي تحتاجهم الآن أكثر مما يحتاجونها.
إنه زمن التبدل والتبديل وتغيير الجلد وإظهار الهوية الأصلية.
إنه زمن الحقيقة الوحيدة الباقية وهي أميركية (مطعمة بالإسرائيلية).
إنه الزمن الأميركي في كل مكان، فلماذا لا نقصد واشنطن مباشرة، ولماذا نلتف وندور عبر دمشق، أليس الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين؟
ومن سبق شم الحبق، والخاسر مَن تأخر أو تردد في خياره اليتيم!