شاخ المسيسون من العرب وتعبوا. أنهكتهم الخيبة وأفقدتهم الهزائم ثقتهم بأنفسهم وبالمؤسسات الحزبية التي أنجبتهم وأعطتهم الاسم والدور، وتراكم الرماد طبقات في الصدور التي كانت تزخر بالأمل وبالايمان بالجماهير. حل “الشخص” محل “الشعب” وحلت “الواقعية” محل إرادة التغيير.. ولأن “الأشخاص” في موقع القيادة والسيطرة والنفوذ يتشابهون في إنهم بدلاء وليسوا أصيلين، فمن الممكن أن تتنقل الابرة بين أحدهم والآخر بقوة الدفع… الذاتي!
آسف… لقد استبقت الحوار مع اصحاب الأحلام القومية في عمان باستنتاج قد يبدو قاسياً أو متسرعاً، لكنه قد يساعد على انتظام السياق!
تتركز بداية الحوار عن “الحدث العراقي” على أمرين محددين:
*الأول – استعادة تاريخ الأسرة الحاكمة الكويتية (سابقاً؟ بعدما أعلنت الجمهورية؟) بكل مباذلها وارتكاباتها وخطاياها السياسية. وتشمل الاستعادة ما هو شخصي وما هو سياسي، ما هو داخلي يخص “المجتمع الكويتي” أو يخص “الوافدين العرب” وما يتعرضون له من جور وعسف وعنت، وما هو “قومي” يتصل بالدور الكويتي على المستويين العربي والدولي.
*الثاني – استشراف افق الخطوة العراقية ، وما يريده صدام حسين منها وما سيحاوله الغرب (الأميركي خاصة) لمواجهتها، ومواقف العرب الآخرين منها أنظمة وجماهير… مع وقفات مطولة أمام احتمالات التدخل العسكري ومن اين يمكن أن يجيء ، والدور الإسرائيلي فيه، واستطراداً الدور التركي أو حتى السعودي إذا لزم الأمر الخ…
في الأمر الأول تنطلق الألسنة بلا عقال، وتنهال الذكريات والوقائع السوداء شلالاً هادراً، مع استشهادات بعضها سياسي ومعظمها شخصي، ثم إنها بمجملها تنتهي إلى النتيجة ذاتها وهي: إنه قد آن الأوان للتخلص من هذه الأسرة (آل الصباح) ومن سائر الأسر الحاكمة في الجزيرة والخليج، مهما كان الثمن وبغض النظر عن البديل، فهذه الأسر لم تتورع عن ارتكاب أية جريمة من الخيانة العظمى إلى هدر الثروة القومية إلى ضرب حركة النهوض القومي على التواطؤ مع العدو الصهيوني عبر علاقة الارتهان للأجنبي (وللأميركي بالذات)… وبعد ذلك يجيء حديث المباذل والسلوك الشخصي المشين لأفرادها، وبينهم من “يتزوج” مساء كل خميس ليطلق صباح الجمعة، بداعي التقوى وتطبيق الشرع بحيث لا يكون على ذمته أكثر من أربع زوجات في الوقت ذاته.
ثم إن لأسرة آل الصبح خصوصيتها، إذا أغراها الفراغ والنفط والبترودولار وتراجع الحركة القومية وحاجة بقية العرب إليهم، كبارهم (كمصر) والصغار، بادعاء التميز وممارسة فوقية شبه عنصرية على سائر عباد الله في الأرض العربية… مع التنويه بأن الوجه الآخر لهذا التعالي على الأخوة – الفقراء، وأحياناً حتى على الأغنياء منهم، كان يتجسد في دونية مستفزة وفي تبعية مطلقة للأعداء – الأقوياء: الإنكليز في البداية والأميركيين من بعدز
يروي الرواة، مثلاً، إن الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز سأل مرة بعض جلسائه: – كم عدد الدول العظمى في العالم؟! ولما أجابه هؤلاء بكثير من الدهشة: – طال عمرك، هي اثنتان فقط، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي!.. رد من غيرأن يبتسم بالقول: – بل هي ثلاث، الأميركان والسوفيات والكويت!
نكتفي بهذا القدر من محاسن آل الصباح، كما تردد في أي نقاش، حتى لا يبدو وكأنه من باب الشماتة والضرب في الميت أو من أعمال السكاكين في بقرة وقعت،
ثم إن الحوار قد تركز على الأمر الثاني، ولم يجد أحد ما يقوله دفاعاً عن أسرة آل الصباح، بل إن أحداً لم يجد نفسه معنياً بمحاولة تبرير “مآثر” أفرادها السياسية أو الشخصية. وللمناسبة : فلقد ثبت بالقطع إن ليس بين العرب مشفق واحد على آل الصباح، الذين نجحوا في ما فشل فيه الآخرون تحقيق إجماععربي… وإنما ضدهم!
حتى من يعترض على الخطوة العراقية لا يشمل باعتراضه خلع آل الصباح، بل هو يعتبر إن خلعهم قد تأخر عن موعده الطبيعي، ويختم متمنياً المصير ذاته لمن ماثلهم في الموقع والسلوك.
موضوع الحوار هو نسبة “القومية” في تصرف صدام حسين، وإلى أي حد يمكن إدراج خطوته المباغتة في سياق النضال من أجل الوحدة العربية، وبالتالي فهل المواطن العربي – في أي أرض عربية – معني بالدفاع عنها أم لا…
ولقد تدرجت مروحة الآراء بين المشاركين على دفعات، في هذا النقاش بين التأييد المطلق لصدام، بغض النظر عن مدى إيمانه الشخصي بالوحدة والاشتراكية والحرية خاصة، برغم مرور ثلاثين سنة ونيف على انتسابه إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وبين التحفظ على أهدافه الحقيقية من وراء اجتياح الكويت.
*‘* قال البعض: إن صدام إنما يحقق اليوم ما عجز عن تحقيقه عبد الكريم قاسم قبل ثلاثين سنة، وإنه ينهي واقعاً انفصالياً ويسقط كياناً كرتونياً أقامته حراب الأجنبي ومصالحه، وإنه بالتالي يتصدى للإمبريالية والصهيونية والإقليمية النفطية والانفصالية جميعاً، وإن على العرب جميعاً تجاوز تحفظاتهم ونسيان خلافاتهم والالتفاف حول هذه الخطوة الوحدوية الشجاعة!
** واستخدم بعض آخر المنطق ذاته معكوساً فقال: – يكفيأن تكون كل القوى المعادية قد انتظمت ضد صدام لكي يكون العرب معه…
** وقال بعض ثالث: – لنكن عمليين، لقد أراحنا صدام من حكم انفصالي متعفن وهدد بالمصير ذاته هؤلاء المسوخ من حكام النفط وكلهم عميل مرتهن للأجنبي… وحتى لو افترضنا إنه قام بخطوته مدفوعاً بمطامحه (بل ومطامعه) الشخصية، فهل يجوز أن نعترض عليه أو نتحرك لحماية هؤلاء الفاسدين المفسدين من مبددي ثورة الأمة وكرامتها؟!
** وقال بعض رابع: – ألا تأخذك العزة القومية وأنت تسمع أخيراً من يخيف إسرائيل مهدداً بحرقها، ومن يتصدى للقوى العظمى الوحيدة الآن في الدنيا على اتساعها؟!
** وقال بعض خامس: – على الأقل لقد أعادهم صدام إلى موقع الدفاع وكانوا في موقع الهجوم!
كانت الحماسة طاغية بينما أخبار الاستعدادات الغربية للتدخل العسكري مع بيانات الحصار والعقوبات تتوالى بلا انقطاع، حتى لقد كاد أحد “النواب” الأغرار من أبناء الديموقراطية الملكية المستجدة يترك العشاء حتى لا يقوته القتال كمتطوع وحدوي ضد الغزاة الإمبرياليين.
على إن المناقشة الهادئةن بعد فتور الحماسة، كانت تستولد جملة من الأسئلة والتساؤلات المقلقة، بينها على سبيل المثال لا الحصر:
*أين شعب الكويت من هذا كله، وبغض النظر عن عدده؟! أين المعارضة الديموقراطية الكويتية التي قمعتها أسرة الصباح قبل أسابيع قليلة بقوة البوليس والمخابرات واعتقلت رموزها من أصحاب التاريخ النضالي؟!َ ولماذا لم يرفع النظام العراقي صوته بالاعتراض على قمعها، ولو من حيث المبدأ؟!
واستطراداً : لماذا لا يجد هذا النظام كويتياً واحداً مستعداً للتعاون معه من خارج دائرة ضيقة تضم مجموعة من الضباط الذين استمالهم – بهذه الوسيلة أو تلك – وأعدهم لهذا اليوم؟!
*أين هو الخطاب الوحدوي؟! لقد أسقط صدام أسرة حاكمة وأقام مكانها حكومة ظل تغطي تدخله العسكري وتموهه بشعارات “ثورة” لم تقع…
لكن أحداً لم يرفع شعار الوحدة، لا صدام ولا جماعته الذين نصبهم حكاماً جدداً على “الدولة” القديمة، الكيان الكرتوني ذاته… هل يصير الانفصال وحدة إذا حل علاء الدين محل الشيخ صباح؟!
*ثم هل الأمة قادرة على تحمل نتائج هذه الخطوة العراقية؟ هل هي بعافيتها؟! واين جماهيرها الهادرة؟! وماذا أعد من أسلحة المواجهة لحرب بهذه الشراسة ومع العالم كله؟!
إن الحد الأدنى من التنسيق مفتقد حتى مع الحلفاء المفترضين، سواء الشركاء في مجلس التعاون العربي (مصر واليمن والأردن)، أي مع سائر العرب، وواضح إن الكل بوغتوا وهم الآن في حيص بيص,. لا يعرفون شيئاً عن أهداف صدام النهائية، ولا قدرة لهم على مجابهة “أصدقائهم” في الغرب. خصوصاً والأمر يمس مصالحه الاستراتيجية الحيوية وفي مقدمها النفط.
فهل بأنظمة عاجزة ومتهالكة ستكون المواجهة؟!
وهل تتحمل الأمة هزيمة جديدة، لا سمح الله؟!
*لقد أدى سلوك صدام إلى تدمير المرجعيات العربية جميعاً، من جامعة الدول العربية إلى مؤسسة القمة، إلى المجالس الإقليمية أو الجهوية. وواضح إنه بات متعذراً – وحتى إشعار آخر – جمع القادة العرب أو بعضهم لاستيعاب الأزمة وحلها ضمن الإطار العربي… افليس في هذا التفرد خدمة ثمينة للغرب، وأضعاف للعرب، وإتاحة فرصة أوسع وذرائع أكثر وجاهة لإسرائيل وخطططها العدوانية ومشاريعها التوسعية؟!
*كانت الأنظمة النفطية دائماً في حمى الغرب، لكنها لن تتورع بعد الآن، وبذريعة حماية نفسها من أطماع صدام وأحلامه الإمبراطورية، عن استدعاء قوات الاحتلال الغربي إلى أرضها الغنية، وسيكون على الأمة، أن تواجه استعماراً جديداً وهي فيأضعف حالاتها إطلاقا… فالرابطة القومية مضروبة، والشعب مغيب، والأحزاب وسائر مؤسسات العمل الشعبي (النقابات، الاتحادات، المنظمات الجماهيرية) مجرد أجهزة سلطوية ملحقة بأجهزة القمع الرسمية، فمن سيتصدى وتحت أي شعار سيحشد الجماهير المنهكة بدهور القمع والاضطهاد والمحاسبة على النوايا؟!
البعض تورط فدخل إلى المنطقة المحرمة: المصالح الاقتصادية، وأخذ يفرز الدول بين متضرر ومستفيد، ليستنتج من ثم إن الولايات المتحدة بالذات ومعها الاتحاد السوفياتي ليسا بين المتضررين فعلياً… وثمة من أثبت بالأرقام إن المنتجين الأميركيين للنفط سيكونون بين المستفيدين من ارتفاع الأسعارز
وبعض آخرانطلق من استبعاد التدخل العسكري لينتهي إلى ترجيح احتمال التفاهم، ولو بعد حين، بين صدام والغرب، طالما إن النظام العراقييتعهد بضمان مصالحه الحيوية واستمرار تدفق النفط إلى شرايينه وعوائده إلى مصارفه ومجالات الاستثمار فيه.
ولقد ظل الحوار معلقاً في انتظار التطورات،
لكن أصحاب الأحلام القومية كانوا يرتكبون عند استذكار بعض التجارب العربية للنظام العراقي وأبرزها (وأحدثها) في لبنان: من العلاقة “التاريخية” مع “القوات اللبنانية” إلى الدعم غير المحدود لميشال عون في حربه لتحرير لبنان من اللبنانيين وسائر العرب والمسلمين!
وفي ظل غموض النوايا والأهداف فقد ترك الأمر “لمبادرة الغرب” إن هو جنح إلى الصلح والتسوية فلسوف تكون الخطوة بعيدة كل البعد عن الوحدوية والقومية والتحرير، وإن جاءت قوات التدخل فنزلت لتقاتلنا فلسوف نقاتلها جميعاً وبكل سلاح… ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!