طلال سلمان

على الطريق حوار عربي مع هندي أحمر

على هامش الاحتفال بمنح جائزة معمر القذافي للهنود الحمر، جرى هذا الحوار في طرابلس بين بعض الثوريين العرب المتقاعدين وبين هندي أحمر يحمل جرحاً عمره خمسمائة عام وقد تجاوز اليأس والمرارة وصار أقرب إلى الشاهد على نفسه وعلى الآخرين…
“هنا مقتطفات من هذا الحوار الذي ظل يفتقد السوية وبقي أقرب إلى المونولوج… ولو بصوتين”.
قال الهندي الأحمر: – حين وصلوا أعلنوا إنهم “اكتشفوا” أرضاً جديدة. صرنا اكتشافاً مع إننا نحن أيضاً قد اكتشفنا عبرهم عالماً ثانياً غير عالمنا، كان واحدهم يمشي على قدمين وله ذراعان وعينان وأنف واحد، مثل أي واحد منا، وكان يتأملنا بدهشة ممزوجة بشيء من الذعر، وكذا كنا نتأمله. لم يفهم لغتنا ولا نحن فهمنا لغته. أنكر علينا مسلكنا وأنكرنا عليه مسلكته. ولم يكن في البداية الأقوى، بل كان بوسعنا أن نبيد جميع الذين نزلوا على الشاطئ.
… لم نكن قلقين أو خائفين لأننا كنا في بلادنا، فوق أرضنا، لكنهم ما لبثوا أن اخترقونا، اشتروا بعضنا، وأغووا بعضنا بالهدايا ذات الوهج، ثم تغلغلوا أكثر فاستعدوا بعضنا على بعض، وهيجوا أطماع بعض صغار النفوس الذين يريدون السلطة بأي ثمن ولو على حساب أهلهم وبلادهم.
قال واحد من العر: – لكأنك تتحدث عن حاضرنا.
قال ثان من العرب: – كيف استطاعت فئة قليلة أن تغلبكم وتسلبكم أرضكم؟! أين كنتم بأعدادكم الغفيرة ومعرفتكم ببلادكم، بحورها وسواحلها وجبالها… أين كانت الدول الأخرى، في أوروبا ذاتها، وكذلك في آسيا؟!
قال ثالث من العرب: – تزامنت نكبتكم في بلادكم مع نكبتنا في الأندلس. كانوا قد طردونا من سواحل شبه جزيرة ايبيريا، عشية رحلة الاكتشاف هذه، ولعلهم سخروا بعض أسراهم من علماء العرب لقيادة سفنهم في “بحر الظلمات” أي المحيط الأطلسي.
قال الهندي الأحمر: – ليس الأمر في ما كان، الأمر في ما يكون.
قال واحد من العرب: – ولكنكم لم تعودوا تملكون أن تغيروا شيئاً.
قال الهندي الأحمر بهدوء شديد: – ولكنكم تملكون.
قال واحد من العرب كان في السلطة حتى خلعته: – ما نملكه أقل من أن يكفي.
قال الهندي الأحمر: – المهم أن تكونوا أكبر مما تملكون، لقد هُزمنا حين صرنا أصغر من أرضنا، أشح من سهولها وأقل صلابة من صخورها، وأهدأ من أمواج بحورها.
قال واحد من العرب: – إنه الفارق في القوة بينكم وبينهم، وبيننا اليوم وبينهم.
قال الهندي الأحمر: – بالقوة يأخذون كل شيء إلا هذا (وأشار إلى قلبه)، لقد أخذوا أرضي وأخذوا أسباب قوتي، وأخذوا حتى لغتي، ولكنهم لم يستطيعوا أن يأخذوا قلبي، وبقلبي ما زالت أرفضهم، خصوصاً وإنني أعرف كم يرفضونني.
ران صمت ثقيل، قطعه الهندي الأحمر رقوله: – لست ألومكم. وليس لي الحق بتعليمكم. أنا مهزوم حتى العظم. أنا مجرد “عينة” من أمة منقرضة، يحافظون عليها بوصفها بعض ممتلكات متحفهم “الطبيعي” لكنكم أمة عظيمة وتقدرون، أجل تقدرون، إن العصر غير العصر…
قال واحد من العرب: – كلنا في الهزيمة سواء.
قال الهندي الأحمر: – الهزيمة ماضي وحاضري ومستقبلي. الهزيمة بعض ماضيكم، وربما بعض حاضركم لكن المستقبل كقلبك، لا يؤخذ منك إلا إذا قتلته أنت.
قال واحد من العرب: – أتمنى أن يكره شعبي أميركا كما تكرهونها.
قال الهندي الأحمر: – أنا لا أكره أميركا، أميركا وطني، أنا أمقت سياستها، أنا منبوذ فيها ومضطهد، ولكنني – سأبقى فيها ومنها حتى آخر رمق، حتى الرجل الأبيض لا أكرهه، أنا أعجز من أن أكرهه. هو يكرهني، هو يحتقرني، هو يريد إلغائي، وأنا أضعف حتى من مواجهة كراهيته الكراهية هي الوجه الآخر للطغيان وليس للقوة، القوي يقاوم بسيفه أو بيده أو بقلبه. يصمد. الطاغية هو الذي يكره وهو الذي يقتل وهو الذي يتلذذ بإذلال ضحيته. وأنا لم أسقط بعد، ما زلت هندياً وسأبقى، وسأموت هندياً، معركتي ميئوس منها، لقد ولى زمن الأمل والأحلام، أدرك هذا، لا أوهام لدي في تغييير الولايات المتحدة، أقوة قوة في الكون. لكن هذه القوة الهائلة تظل أعجز من أن تغير جلدي أو قلبي أو شعوري، لا أشعر بالزهو، ولا أترك الشعور بالغربة يجتاحني وأنا أسمع “الأجانب” الوافدين من شتى أنحاء الأرض يقولون إنهم أميركيون. ما زلت أراني الأميركي الأول والأصيل والأبقى. هذا مغروس كنخلة هنا (وضرب على صدره).
قال واحد من العرب: – … وكيف ترى العرب؟!
قال الهندي الأحمر: – أمة عظيمة ينقصها الشعور بحقيقتها.
قال واحد من العرب: – لكن حقيقتها لا تسر القلب.
قال الهندي الأحمر: – هذا واقعها وليست حقيقتها، وأخطر ما يتعرض له الإنسان أن يخلط بين واقعه وحقيقته. الواقع عارض، طارئ، يتغير بتغيير معطياته، أما الحقيقة فثابة.
قال واحد من العرب: – بماذا تنصح الفلسطينيين؟!
قال الهندي الأحمر: – لا أملك الجدارة ولا الحق بالنصيحة، أنا العظة لا الواعظ. أنا بعض الماء ولست النهر. أنا بعض الصدى ولست الصوت. أنا حصوة في الأرض ولست لاأرض. أنا صورة الهزيمة. كثيرة هي الأعذار لكنها تندثر وتبقى الهزيمة. لقد بدأت الهزيمة حين بدأ التنازل. كنا التخلف وكانوا، بشكل ما، التقدم، ولقد استعملوا تخلفنا وقتلونا به، ولم نصل إلى علمهم ولا أمكننا استخدامه. بقينا قبائل وكانوا أمة قاتلهم جدودنا ببسالة، كأفراد، وقاتلونا كجيش موحد بقيادة وأركان وخطة وحسن استخدام للسلاح.
الذراع أهم من السيفن والقلب أهم من الذراع، والعقل أهم من القلب، ويكسب من يوحد بين هذه جميعاً، فلا يمكر بعقله لكي يقطع بالسيف الذراع ثم يبكي ندماً على إنه أضاع كل شيء.
وقال واحد من العرب: – ولكنكم لم تبتلوا بالصهيونية.
قال الهندي الأحمر: – تختلف الأسماء أحياناً والمسمى واحد.
قال واحد من العرب: – ولم تكن الإمبريالية في حلف استراتيجي مع الصهيونية.
قال الهندي الأحمر: – لا يهم اسم العدو. لا تتبدل الطبيعة بتبدل الأسماء. المهم اسمك أنت. الأفعى هي الأفعى. النمر هو النمر. الذئب هو الذئب، السؤال هو: هل أنت أنت؟!
قال واحد من العرب: – لا نريد أن نفسد عليكم هذا الاحتفال، فالمفروض إننا نكرمكم.
قال الهندي الأحمر: – يكون تكريمنا بأن تنتبه الشعوب فلا تتكرر مأساتنا في غيرنا.
قال واحد من العرب: – أكاد أعتذر إنني أحدثك بالإنكليزية.
قال الهندي الأحمر: – المهم أن تبقى لغتك لغتك، أن يبقى عقلك عقلك، أن يبقى قلبك قلبك، أن تبقى أرضك أرضك، أن يبقى تاريخك تاريخك، المهم أن يظل الماء في مجرى النهر، أن يظل الجبل في موقعه من الأرض، وأن يظل يعرفك حصانك.
قال واحد من العرب: – نحن مثلك نناضل للحصول على حقوق الإنسان.
قال الهندي الأحمر: – لا أحد يستطيع تعويضنا الحقوق التي خسرناها، ولكننا نشعر إننا في خانة المنتصرين متى حافظت الشعوب الأخرى على حقوقها المقدسة، في الحرية، في الكرامة، في الأرض، في الحياة داخل العصر وليس مثلنا خارجه.
قال واحد من العرب: – ما أقل ما سوف نعطيكم…
قال الهندي الأحمر: – المهم أن تحفظوا لأنفسكم ما ترون إنكم تستحقونه.
قرع الجرس معلناً انتهاء الاستراحة، فالتفت الهندي الأحمر إلى من حوله وقال مودعاً:
-لو كان الكلام أقل لو إننا حفظنا للوقت كرامته! كيف يريد مكاناً في المستقبل من يهدر حاضره في التحسر على ماضيه أو في نسج أحلام يقظة حول غد لن يأتي؟! في قبيلتنا يقولون: لا تثقل على حصانك بلسانك، خفف عنه بسيفك!!
وبحثت جمهرة العرب المتحلقين حوله عن السيوف فلم تجد غير ألسنتها الثقيلة.

Exit mobile version