من يستمع إلى خطب “الرؤساء” اللبنانيين وتصريحاتهم اليومية يكاد يحسد لبنان على ما فيه من إنجازات وما حباه الله من نعم ومن خيرات أعظمها الرؤساء أنفسهم.
فالحكم طليق اليد واللسان، لأول مرة منذ فترة طويلة،
إنه يستطيع أن يقول ما يشاء، وبلسان أي من الرؤساء، فلا يجد معترضاً أو مناقشاً أو حتى محاوراً، ولو من باب تجميل الصورة.
إنه حكم بلا معارضة برغم تعدد المعارضين وتوفر أسباب الاعتراض،
والسبب إنه حكم لا يتعاطى الشأن السياسي.
فباسم المصالحة الوطنية أو الوفاق أو الوحدة الوطنية الخ.. نشأ تقليد الحكومة – الكيس التي تحشر فيها القوى جميعاً، قوى الحرب خاصة من أحزاب وميليشيات ومافيات اقتصادية حليفة،
لقد انتقلت الأحزاب والميليشيات وتحت شعار الطوائف المتصالحة من الشارع إلى دست الحكم، تاركة فيه القضايا والمسائل والاهتمامات التي كانت ترفع راية النضال من أجلها. لقد دخلت الحكم “ربي كما خلقتني” عارية من كل ما كانت تموه نفسها به أيام “العمل الشعبي”. وكان لا بد من الحصول على مثل هذه “البراءة” لكي تدخل جنة الحكم.
أكثر من ذلك: دخل “القادة” بعدما عملوا كل ما بوسعهم لتبقى “أحزابهم” خارج الحكم والسلطة.
حتى في الانتخابات النيابية: وصل إلى البرلمان حزبيون ولم تصل الأحزاب بما هي قوى سياسية ذات برامج تحرض أو تدعو على التغيير… ولو بالوسائل الديموقراطية.
ربما لهذا يبدو المجلس النيابي وكأنه – حتى إشعار آخر – معقم ضد السياسة برغم احتشاد السياسيين القدامى والمتقاعدين ورموز الجيل السياسي الجديد فيه.
أما الحكومة فشرط وجودها أن تكون غير سياسية،
إن “السياسي” في شخص رئيسها يعطل إمكان وصوله إلى رئاسة الحكومة، ويجهض احتمالات استمراره على رأسها، إذا ما ألزمته الظروف بتظهيره،
وبقدر ما تشكل ثروة رفيق الحريري رصيداً “معنوياً” و”شبه سياسي” له، فإن مقتل دوره السياسي يكمن في ظهورها كمصدر للقوة السياسية.
لكأنما ثمة تواطؤ جماعي بأن يلغي كل طرف من أطراف الحكم لونه السياسي وشعاره السياسي وتاريخه السياسي لكي يدخل إلى جنة الحكم المعقم سياسياً.
فكما أن الحزب الوحدوي، مثلاً، “ممنوع” من ممارسة شعاره الوحدوي كذلك فإن “الثروة” ممنوعة من ممارسة تأثيرها السعودي، ولو حتى إشعار آخر.
بالمقابل مسموح لكل الطائفيين والمذهبيين أن يمارسوا طائفيتهم ومذهبيتهم ربما باعتبارها عوامل لاغية للسياسة، ولو اتخت لها شعاراً: إلغاء الطائفية السياسية، أو – بالمقابل – حماية وتأمين وتحصين استمرار الطائفية السياسية.
من هنا يصح القول أن لا حوار سياسياً في لبنان ولا عمل سياسياً ولا صراع سياسياً يؤدي إلى ابتداع حياة سياسية تنبض عافية وزخماً عبر المؤسسات “الدستورية” من مجلس النواب إلى مجلس الوزراء إلى الشارع بقواه الشعبية المنظمة.
لقد قرع جرس الانصراف للأحزاب جميعاً،
وجاء زمن رجال المال والأعمال والشركات الاحتكارية الكبرى.
جُرمت الأحزاب بالتسبب في الحرب، وأدينت، ووقع عليها الحرم السياسي، وفتحت جنة احلكم للشركاء والممولين الفعليين الذين ظلوا – معظم الوقت – خلف الستار، ولم يحرقوا أصابعهم بالنار التي أحرقت البلاد والعباد.
كأنما الأحزاب بعض الماضي،
بل لكأنما عملت كقوى مرتزقة في خدمة أعداء شعاراتها،
ألم تكن تحلم بالتغيير، أي تغيير؟!
حسناً، لقد جاء التغييير، ولكنه تغيير مضاد لذلك الذي “ناضلت” من أجله وقدمت في سبيله المال والروح والأرزاق… وصولاً إلى الوسط التجاري لمدينة بيروت.
الطريف أن الذين “يحكمون” اليوم من موقع “المعارضة السابقة” إنما يسلسون قيادهم للشركاء الذين كانوا دائماً الأقوى بفضل المال الذي أنفق بغير حساب على كل أطراف الحرب: يسارها واليمين والوسط، الاشتراكي والمعادي للاشتراكية، والمحروم والمغبون وأيضاً المتسبب في الغبن والحرمان.
“كلهم أبنائي”،
وكلهم كالبنيان المرصوص، اليوم، في سدة الحكم يشد بعضه بعضاً.
وفي جلسة “المناغشة” النيابية، يومالثلاثاء، تبدت واضحة قوة التلاحم بين قوى التغيير القديمة وقوى الإنماء الجديدة: لقد زكى الرؤساء بعضهم البعض، وامتدح كل من الثلاثة شريكيه، وبدوا وكأنهم “جبهة واحدة”، وصوت واحد يلعلع في سماء الصمت والتواطؤ وتهيب الاعتراض.
إنه “حواب الصوت الواحد”؟!
وكيف يكون حواراً بصوت واحد إلا إذا كان الطرف الثاني أخرس، بالولادة أو بشلل الرعب، أو بشبق الطمع إلى مشاركة في الغنم؟!
فقط بعد جلسة “مناغشة” من هذا النوع يمكن الإعلان عن قيام الهيئة التأسيسية للشركة العقارية لإعمار الوسط التجاري على شكل “مجلس ملي” لبناني مطعم ببعض المستثمرين السعوديين.
… خصو صاً وإن رئيس الحكومة – رئيس مجلس الإنماء والأعمار – رئيس الشركة العقارية قد “أقنع” المجلس النيابي (بعد منازلة شرسة!!)، بأن لا دراسة جدوى اقتصادية لأعظم مشروع بأعظم جدوى اقتصادية في تاريخ لبنان،
أما مجلس الوزراء فقد تصدى – كمؤسسة – وجادل أطرافه وناقشوا ولم يقتنعوا إلا بشق النفس… وكان أعندهم وأصلبهم في النقاش وزراء المصارف التي تعود ملكيتها إلى رئيس مجلس إدارة الحكومة – الأعمار – الشركة – أحزاب الماضي وقوى الحرب.
مبروك لحكم الصوت الواحد وإن تعددت أسماء المناصب والشركات.