مثل عشاق الحياة جميعاً، المتحرقين إلى رعشة فرح وإلى استعادة الإحساس بعطر الوردة وشميم تراب الأرض والعشب البكر بخضرته الداكنة المتشوقة إلى الضوء والدفء، كنا ننتظر الربيع.
وكنا ننتظر أن يصمت الرصاص لنسمع حفيف الوريقات المبشرة بالربيع وهي تتنابت فوق أغصان الشجيرات العجفاء ومعها تلك الأكمام التي سرعان ما تتفتق عن الزهر المجنون.
ولقد جاء الربيع، هذا العام، بعد ليل من الجحيم طال واستطال وفظعت كوابيسه حتى كدنا نعتقد أن لا فجر بعده ولا صباح، وهكذا منحنا الشعور بالاطمئنان القدرة على التفكير وعلى استذكار بعض العادات والعتيقة كمثل اللغة ومفرداتها ووجوه استخدامها وبينها الحوار، مع الذات ومع الآخر، ومراجعة التجارب واستخلاص الدروس والعبر، وما أكثرها..
قال قائلنا: أما وقد صمتت المدافع أو أصمتت فلنطلق الجدل الذي أخرسه الرعب من عقاله ولنستعد بعض التقاليد الديمقراطية المنسية، ولنثبت فعالية قوانين الصراع السياسي بالحجة والرأي والمنطق والفكرة المضيئة على تحقيق ما لم ولن يحققه الصراع بالسلاح على الزواريب والأحياء والعمارات والمؤسسات في المدينة الممزقة القلب والجوانب والضواحي.
بلا مقدمات أو تبريرات أو تخطيط مسبق اندفعنا نستكشف، بداية، الجو ومدى قابلية الأطراف جميعاً لأن تطوي صفحة الاقتتال وتعود، وتساعد على إعادة البلاد، إلى ما عرفته وألفته في حياتها السياسية من قوانين وأعراف، وبينها الانقسام ولكن على أسس سياسية: حكم ومعارضة، أصحاب مطالب وتطلعات وأصحاب مناصب وامتيازات، أصحاب مصالح وأصحاب مطامح، الكل يصارع مستهدفاً الوصول إلى دائرة القرار ومركزه ولكن مع مراعاة أصول اللعبة والحرص على ألا تنكسر تحت الضغط فتقتل الجمهور وسيء الحظ أو الفهم من اللاعبين.
ذهبنا إلى الجميع، كل حيث يتحصن داخل وضعه الخاص،
كانت معنا مجموعة من الأسئلة تختزن وتختزل همومنا العديدة والثقيلة الوطأة.
وكانت معنا قوة “الهدنة” التي لا يريد أحد أن يدفع ثمن خرقها بحرب منفردة قد تكلفه مستقبله وربما وجوده ذاته، كما لا يريد أحد لهذه الهدنة أن تتحول إلى “سلام” شامل ودائم قبل أن يطمئن إلى مستقبل المصالح التي يمثل.
كان معنا أيضاً الشعور بقوة موقع التوحيديين وموقفهم في مواجهة التقسيميين المضطرين، مهما كابروا، إلى الاعتراف، بإفلاس مشروعاتهم السياسية، لاسيما في ظل التداعيات المنطقية المترتبة على عودة سوريا إلى بيروت المعبرة عن تبدل أساسي في اتجاه الريح.
وكانت معنا أخيراً، قوة جذب الأيام الأولى من الربيع وما تشيعه في النفوس من إقبال على الحياة ورفض للموت والبشاعة واليباس والمزيد من السنوات العجاف.
شملت جولتنا معظم القيادات الروحية والسياسية، في البلاد، وهي ما تزال مستمرة ومفتوحة لكل صاحب رأي أو اجتهاد أو مقترح، وبالتحديد لكل ما ينشط الحوار ويغنيه ويقرب أمد استعادة وحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
لم نتحفظ ولم نضع “فيتو” على أي اسم لشخص أو لتنظيم، بغض النظر عن رأينا في دوره أو رأيه أو موقعه.
توجهنا إلى “المحاربين” و”المسالمين”، إلى المستقوين بطبيعة النظام والأقوياء بصلابة المعارضة والإيمان بضرورة التغيير، إلى المتسلحين بحراب الغرائز الطائفية المستثارة وإلى من افترضوا أنهم يناضلون لإلغاء الطائفية السياسية ولو عن طريق عدالة التوزيع بين الطوائف حتى لا نقول بين الطائفيين،
واستمعنا بعناية وباهتمام وأحياناً بصبر إلى الآراء جميعاً، بما فيها المتطرف والحاد بالنبرة أو بالمضمون، وحين ناقشنا ظل النقاش محكوماً بالعنوان – الهدف الموضوع والمقصود لهذا العمل الذي نقول به وهو: حوار من أجل الوحدة.
وبغير استباق للنتائج وتقديمها على الوقائع يمكننا وضع أكثر من خط تحت معان محددة برزت عبر المحاورات والمناقشات التي أجريناها، حتى الآن، أهمها الآتي:
*- إن الحوار السياسي مطلب يكاد يحظى بالإجماع.
الكل معه، بالاقتناع أو بالاضطرار، بوصفه الوسيلة الوحيدة المتبقية للحفاظ على “لبنان ما”، فكيف بلبنان يتطلع إليه الجميع عبر الذكريات أو عبر التمني؟!
والحوار مع الآخر هو المطلب، وهو – ربما – السبيل الموصل إلى حوار جدي مع الذات.
لقد مل الجميع “المونولوج”، ومثلنا ملوا سماع الصوت الوحيد النبرة والنغمة، مع إنه صوتهم، إنهم يتشوقون سماع الأصوات الأخرى، ربما ليبرروا تمايز صوتهم أو حتى ضرورته.
وهو مطلب في “الشرقية” بقدر ما هو مطلب في “الغربية”، والأكثر تسليماً بجدواه هم أولئك الذين يعيشون حالة غربة وانقطاع كامل عن “الآخر”. لقد تعرفوا عليه، عبر الحرب، عدوا، ثم اكتشفوا بالحرب ومن خلالها إنه ليس عدواً بقدر ما أفهموا أو افترضوا أو صوّر لهم. والأهم إنهم اكتشفوا إنهم إذا كانوا قد أفادوا منه، لفترة، في موقع “العدو” لتأكيد وجودهم ذاته فإنهم بحاجة ماسة إليه الآن في موقع الخصم السياسي للحفاظ على وجودهم ذاته، مرة أخرى، فاللعبة تحتاج اثنين وربما ثلاثة أو أربعة أو حتى عشرة ولكنها لا تكون ولا تستقيم بواحد يواجه الآخرين جميعاً ويبرر وجوده بعدائهم وبالادعاء إن الحرب بينهم وبينه هي حرب “يا قاتل يا مقتول” ينتصر فيها ويبقى الأقوى وحده.. فحتى الأقوى بحاجة إلى “ضعفاء” ليثبت قوته، بل ولكي يكون.
*- إن السلاح لم يعد مطلوباً ولم يعد مقبولاً ولم يعد مبرراً حمله حتى عند أولئك الذين اقتحموا صدارة المجالس والزعامات بقوة السلاح وليس إلا بها.
فالمسلح، الآن، أي مسلح، يكاد يخجل بماضيه فكيف بحاضره كمسلح؟!
وهو يحاول أن يغري الناس بتناسي ماضيه من خلال تأكيد قدرته على مشاركتهم حياتهم “المدنية” التي يتشهون العودة إليها بأي ثمن…
لقد سقط المسلح وخرج من وجدان الناس كما خرج – فعلياً – من خانة احتياجهم الفعلي إليه، كمدافع عن الحرية، أو عن حدود الكانتونات، أو عن الكرامة الشخصية أو عن مصالحه وأملاكه ورزقه الخ.
بل لقد تحول هذا المسلح، وإلى حد كبير، إلى قيد على الحريات، العامة والشخصية، وإلى داعية لمشروع تقسيمي ثبت إفلاسه بالوقائع المرة المعاشة (التهجير، الموت الجماعي، الأزمة الاقتصادية التي وضعت الناس جميعاً على حافة الجوع الخ…)، كذلك فهو قد صار عبئاً على المصالح والأملاك والأرزاق، خصوصاً وإن الكثير من القيادات المسلحة قد اقتحم هذه المجالات ليس فقط من موقع الشريك المضارب بل ومن موقع المغتصب لحقوق الآخرين الطبيعية.
*- إن كل مشروع قائم على تغيير الواقع بقوة السلاح قد سقط أو هو في طريقه إلى السقوط،
فكل من كان يرى نفسه قوياً فوجئ بأن الحرب قد أنبتت من هو أقوى منه، وهكذا انفتحت جبهات متعددة لحروب داخلية، اشتعلت نارها داخل كل تنظيم تقريباً فكادت تلتهم كل شيء بالدرجة الأولى الأقوياء أو المرشحين لأن يكونوا الأقوياء.
*- إن الطائفة كيان هش لا يحمي أحداً، ولا يصلح وحده أساساً ثابتاً لمشروع سياسي قابل للحياة،
إن المنطق الطائفي نفسه يفرض التسليم بالطوائف الأخرى، وإن بقي موقع كل منها موضع جدل أو خلاف أو صراع مفتوح،
ولأن المنطق السائد منطق طائفي فهو مضطر لقبول الطوائف الأخرى كشركاء يتساندون في تبرير المحصلة السياسية لشراكتهم أي الكيان ومن ثم النظام اللبناني،
*- يتصل بهذه الحقيقة إن المتصارعين بأكثريتهم الساحقة في مختلف دويلات الطوائف وكياناتها الوهمية أو الهشة والمهددة بالزوال تحت تأثير أي طارئن هم أبناء شرعيون لهذا النظام اللبناني الفريد،
الكل يقاتل الكل، ولكن بالسلاح نفسه وبالمنطق نفسه ومن داخل النظام نفسه وليس من خارجه،
من هنا ابتداع تعبير، الصيغة، ومحاولة التوكيد على حصر الصراع في إطارها،
ومن هنا يتزايد اليقين بإمكان إنهاء الحرب متى تخففت من الانعكاسات المباشرة للصراعات الكبرى في المنطقة بمستوييها الدولي والإقليمي وهو “الاسم الحركي” المعاصر للصراع العربي – الإسرائيلي.
إنه “حوار من أجل الوحدة”، وبلا الوحدة لا مجال لإنهاء الحرب، وبلا الحوار لا مجال لتجديد الوحدة،
وإذا كانت الحلقتان السابقتان من الحوار مع غبطة البطريرك الماروني وسماحة مفتي الجمهورية قد عكستا الإصرار على تحقيق هذين الهدفين العظيمين، فإن الحلقات التالية لن تعكس – بالمجمل – توجهات مناهضة للوحدة أو للسلام.
ومن حقنا أن نعلن أو نجدد إعلان إيماننا بالحوار سبيلاً إلى حل أزمتنا المعقدة، بعدما أشهر السلاح إفلاسه أو يكاد… في “الغربية” كما في “الشرقية” كما في أي من “الجبهات” العديدة التي كادت نقضي على ما ومن تبقى من لبنان ومن اللبنانيين.
والحوار طويل، لكنه محكوم بأن يرسم الطريق إلى الحل وإلى السلام.
والسلاح على أي حال، لم يمنع تفتح وردة واحدة حتى في قلب الخنادق التي حوصر فيها لبنان واللبنانيون على امتداد دزينة الدهور الماضية.