طلال سلمان

على الطريق حوار الموت في الجزائر!

كتلة من الرعب والذعر والاسترابة كان حين دخل على مكتبي، وطيف الموت يغشي حدقة العين، والكلمات تصلني متقطعة، لاهثة، دامعة:
“- لهفي على الجزائر. لن تصدق أنها تلك التي تستوطن الوجدان العربي والتي كانت بثورة المليون شهيد أحد مصادر الأمل في غد عربي أفضل. إنها تنحر كل لحظة، تهشم تهشيماً، يشوه تاريخها بلا رحمة. إنها تمزق إرباً. إن الحياة فيها جحيم. الموت يحيط بك في كل مكان، في البيت، في المكتب، في الطريق… آه من الطريق: في أية لحظة قد يقفز إلى الشارع من يوقف السيارة ويسحب من فيها، وقد يذبحه والناس من حوله مصعوقون بهول ما يرونه، ولكنهم لا يتدخلون. تصور أنني استخدم خمسة مفاتيح للوصول إلى سيارتي، فبيني وبين الشقة المجاورة في الطابق ذاته بوابة من الحديد، وبين الطابق والطابق بوابة حديد، وللبوابة الخارجية بوابة حديد، ولمرآب السيارة بوابة حديد بأقفال عديدة. إن رائحة الموت تملأ أنوفنا وصدورنا. والكل يتصرف محكوماً بعقدة الدم: تقتله أولاً أو يقتلك. الخوف هو السيد، الجيش يخاف الإسلاميين، والإسلاميون يتجنبون المواجهة الشاملة فيتصيدون الدوريات والعساكر. والعروبيون يخافون أتباع الجزارة. والقبليون، أو البربر، وجدوا الفرصة سانحة لإعلان خروجهم عن العرب والعروبة والجزائر الموحدة. لا دولة ولا حكم ولا سلطة من أي نوع. وخارج الجزائر العاصمة لا وجود لأية سلطة. حتى في العاصمة، فالدوريات المسلحة عديدة السيارات تمرق كما السهم، والأسلحة مشرعة من النوافذ والأبواب الخلفية، وممنوع السير خلف الموكب الخائف – المخيف على مسافة تقل عن المائة متر”!
“وداعاً، أنا عائد إلى ديار الموت. اذكرني والجزائر ولو بفاتحة الكتاب”.
وقام الصديق الجزائري القديم يقبلني كمن يودع إنساناً لمن يراه مرة أخرى، وانصرف وكأنما هو في طريقه إلى … الآخرة!
الموت أولاً، ثم الحوار!!
الدمار وحروب الإبادة وتهشيم التاريخ وتلطيخ سمعة الشعب، أولاً، ثم مع تفاقم العجز واتساع خناق الدم، يجيء اعتراف السلطة بالمعارضة وبحقها الطبيعي في أن تقول، وفي أن تشارك في المسؤولية الوطنية، ولو برأيها، قبل الحديث عن حقها في أن تتمثل في الحكم أو تتولاه بحسب قدرتها على التعبير عن مصالح شعبها وطموحاته.
عشرة آلاف قتيل في سنتين، وعشرات آلاف الجرحى، وعشرات آلاف المعتقلين المرميين في معتقلات جماعية في قلب الصحراء، ومئات آلاف المهاجرين الذين يرمون أنفسهم في أول باخرة أو طائرة أو سيارة لينجوا بجلودهم ويحفظوا رؤوسهم في أي مغترب وبأية شروط مذلة!
سبعون مليار دينار جزائري تضاف إلى الديون الهائلة التي خلفتها نجاحات النظام المجيد، عدا عن الزمن الضائع الذي سيزيد من تخلف البلاد ومن فقرها ومن عجزها عن مجاراة العصر وعن الاحتفاظ بموقع يليق بكرامة شعبها وتضحياته، على خريطة عالم القرن الحادي والعشرين.
لا جامعات ولا مدارس ولا مؤسسات تعليمية، وآلاف من الأساتذة والباحثين فروا من الجحيم إلى الغرب، ومعظمهم إلى فرنسا التي كان استعمارها ذات يوم السبب المباشر في تجهيل الشعب الجزائري ومنع العلم عنه وحرمانه من توكيد هويته القومية وفهمه لدينه بحيث بات مهجناً لا يعرف من لغته إلا فتاتها ومن دينه إلا الطقوس الشكلية والبدع وأنماط الدجل المموه بالخرافات الدينية!
لا أمن ولا أمان، لا اقتصاد ولا سياسة، لا دور ولا ريادة، لاعلم ولا ضمان لأي مستقبل، فقط مذبحة متصلة في العاصمة كما في سائر المدن، في الريف كما في أعالي الجبال.
ثم تجيء أمراض زمن الاقتتال: الانقسام العرقي والتنكر للماضي الواحد والحاضر الواحد والمصير الواحد والضياع في غياهب التمايز والافتراق والتشرذم والحماية الأجنبية.
السلطة مفسدة.
وقلة هم من يصمدون لإغراءاتها فلا تزوغ أبصارهم فيستكبرون بها على شعبهم ويتوهمون أنهم باقون إلى الأبد، وإنهم قد اعتصموا بالسلطة فقد تعالوا على أي حساب أو اعتراض أو مناقشة أو مجادلة ولو بالحسنى!
أكاد كل ذلك الموت ضرورياً من أجل أن يفتح الأميركي باب الحوار بين الحاكم الجزائري والمحكوم الجزائري، ثم من أجل أن ينظم اقتسام السلطة بين العسكري والشيخ؟!
أكان كل ذلك التدمير المنهجي للدولة حديثة الولادة ضرورياً من أجل أن يتدخل الفرنسي لكي يفتي في أي الجزائريين هو الأولى بالسلطة باسم الإسلام، وأيهم الذي يوقع عليه حكم الكافر لأنه شوه صورة الدين الحنيف؟!
لعله الحوار، أخيراً.
ولكن كيف ينتظم الحوار إذا كان كل طرف يتهم الآخر بأنه بلا برنامج غير المطلقات معززة بشخصه الكريم؟!
لقد ذهب الاقتتال بكل الادعاءات السابقة: فلا من كان يقول أنه اشتراكي يستطيع الآن أن يستمر في كذبه، ولا “الإسلامي” يمكنه أن يتجرأ فيقول إنه “الإسلام”، علماً بأن إسلام الإسلاميين عاجز مثل اشتراكية الاشتراكيين (السابقين) ومثل “جزأرة” البربر، عن تقديم حلول للمعضلة الدموية التي تكاد تنهي الجزائر، دولة وشعباً.
لا بد من مدخل جديد، مختلف جذرياً، شرطه الأول الاعتراف بعجز أي طرف منفرداً، وسواء أكان في السلطة أم في المعارضة، عن تقديم حل جدي للأزمة الطاحنة في البلاد التي نهبت فأفقرت ودُمرت طاقاتها واستنزفت مواردها، فباتت عاجزة عن تأمين لقمة العيش لشعبها الفتي… العاطل، إلا عن القتل والموت مذبوحاً.
لا بد من توفر الجرأة عند الحكم على إشهار إفلاس النظام.
ولا بد من تواضع شجاع عند المعارضة يدفعها إلى تجنب أخطاء خصومها، فلا تدعي مثل ادعائهم إنها قادرة وحدها على وقف مذبحة الوطن الشهيد.
لا بد من تقديم الجزائر على السلطة، وبعدها يمكن التفاؤل بالحوار، وإلا كان مجرد فاصل دموي صغير بين مذبحتين للإسلام كما للجزائر، ناهيك بالعروبة اللطيم!

Exit mobile version