طلال سلمان

على الطريق حوار الهمس والخوف في صيف الطائف الشبح والتسوية بالثمن!

يتصل السمر في الليل الصحراوي لهذا المصيف الملكي في منبسط ما قبل القمة من جبل غزوان، وتتداخل اللهجات العربية المتمايزة الهم المشترك : مستقبل لبنان.
لا يجيء المستقبل من فراغ أو من خارج رحم الحاضر، ولكنه لا يجوز أن يكون نسخة مكروهة ومشوهة من الماضي بحجة الحرص على سوية التاريخ.
ومدافع الحرب الأهلية لا تنجب أوطاناً، بل إن تعطيلها عن الفعل هو شرط الولادة و”الخلقة الكاملة”.
كذلك فإن البرلمانيين اللبنانيين المحتشدين في قصر المؤتمرات، هنا في الطائف، يكادون – لولا ثقتهم بقدرات اللجنة العربية الثلاثية – يقولون بلسان النبي يحيى: “ربي إني يكون لي غلام وامرأتي عاقر وقد بلغت من الكبر عتياً”؟!
لكن اللجنة تؤكد، باللسانالبدوي معززاً بتلك اللكنة الفرنسية في اللسان المغربي، إن إقرار وثيقة الوفاق الوطني سيفتح الباب أمام “المعجزة”، وإن “الغلام زكريا” سيطل على الدنيا سليماً معافى إذا أحسن ذووه المباشرون استقباله، برعاية “القابلة” العربية التي جمعت في ذاتها علوم الدول جميعاً، في الغرب والشرق وما بينهما.
يبقى أمر “الشبح” والخوف منه على الوليد الآتي باسم الحل العربي – الدولي،
من يتولى الأمر “الشبح” وكيف؟!
اللجنة تقول في كل ساعة: ها أنذا،
لكن الخوف لا يريد أن يزول، أو لا يريد أصحابه أن يتحرروا منه، فتعلو صرخات الذعر، بين الحين والآخر: إلينا، إلينا ، الشبح!
… و”الشبح”، ببزته العسكرية المرقطة، يجوس عبر قاعات قصر المؤتمرات وردهاته والأجنحة، يتسلل من ثقب المفتاح إلى غرف النوم، يحس الجميع بحركته ولا يرونه. ويستوطن مخيلاتهم فيحرف أحياناً الطروحات ويجعلهم يقولون غير ما قصدوا الجهر به… هذا إذا لم يفرض عليهم الخرس المخزي!
وبرغم إن ليل الطائف باهر الاضاءة، إذ تتوزع في أحيائها وعلى طرقاتها ستة وعشرون ألفاً من أعمدة النور، فإن “الشبح” يملأ على البرلمانيين الأفق ويسد عليهم طريق النجاح من خلال كمينه المتقدم على طريق بيروت!
إلينا، إلينا، أيتها اللجنة!
وتسعى اللجنة بالتطمين ونور الضمانة ودفء الحماية، لكن بين الخائفين من لا يريد أن يطمئن أو يهدأ فيعود إلى عالم العقلاء.
أهي حكاية الذئب، إذن؟!
وكيف السبيل إلى التمييز بين الخائف فعلاً، وبين مخيف نفسه؟! بين من يجيئه “الشبح” وبين من يستقدمه ويستدعيه ليفرضه على اللجنة والمؤتمرين؟!
ثم، كم من “الخائفين” هم أولئك الذين يوظفون “الشبح” وبالتالي الخوف منه لأغراض تتصل بالطموح وطلب العلى؟!
وأخيراً، هل تراه “شبح” واحد هذا الجاري استثماره وتوظيفه في مؤتمر الطائف، أم إن الشبح الأصلي يستولد مجموعة من الأشباح الفرعية حتى لا يكون “لشرقي” فصل على “غربي” في ابتداع الأساطير.
وتجديد الحكايات القديمة عن الجن والغيلان… وصولاً إلى “الشاطر حسن”؟!
“اللجنة” تستوطن الصمت، خارج قصر المؤتمرات،
والبرلمانيون يقولون كثيراً لكن كلامهم يظل قاصراً عن توضيح الصورة، لاسيما ما يخص “الشبح” ودوره حاضراً ومستقبلاً.
لكن ثمة مسافة بين الصمت الفصيح والكلام العيي تسمح بشيء من الاستنتاج، واستكمال بعض جوانب الحوار بين الهمس العربي والخوف اللبناني…
أبسط الاستنتاجات إن لـ “الشبح” هنا وظائف عدة، من بينها:
*إنه ينفع ذريعة للهرب من التنازل الذي لا بد منه: – رجاء، لا تحرجونا، ولا تضعفونا في مواجهة “الشبح”. إن تنازلنا يقويه علينا وعليكم!
*وهو ينفع في تزكية الذات: – قد أكون، أو قد أبدو متشدداً، لكن تشددي تكتيكي، فلا أستطيع أن أهزم (لكم!) عون من موقع المتساهل بل “المفرط” بشروط السيادة والمتخاذل في وجه الاحتلال!!
*ثم إنه يصلح أداة لتأمين التماسك بين “الخائفين” على قاعدة حماية الامتياز: ها نحن نضحي، لأجل خاطرك، بالجنرال، أفلا يثبت هذا إن الطائفة العظمى تستاهل الرعاية (العربية – الدولية) والحماية والموقع الممتاز؟!
وبالمقابل فهو أداة لتبريد الرؤوس الحامية، على الضفة الأخرى، وخفض سقف المطالب : أفليس هو هو العقبة والمشكلة؟! حسناً، لنرجع إلى ما كنا عليه أما وقد انتهينا منه!
غالية هي “الأشباح”، فكيف إذا كان “الشبح” المستهدف برتبة جنرال وقائد حرب تحرير؟!
كم هو ثمن “الشبح” المخيف ومن سيدفعه؟!
يأتيك الصوت الهامس واضح النبرة والقصد:
-أجل لا بد من ثمن. لكن الجميع سيدفعون. إننا نحاول إنهاء الحرب، أفلا يستاهل السلام بعض بعض ما تكلفتموه في الحرب؟!
تهم بالمناقشة فيستطرد الصوت الهامس قائلاً:
-لسنا معنيين بالدفاع عن “الجنرال”، ولسنا المحكمة المخولة بمحاسبته، نحن معنيون بالمستقبل، لكننا، من أجل المستقبل، لا نستطيع تجاهل معطيات الواقع القائم والقفز من فوقها، ولو فعلنا كنا كمن يدفع بكم إلى مزيد من الكواريث وليس في اتجاه الحل.
-ولكن كيف تصير العقبة أو المشكلة بعض الحل؟1
-وهل أتى حل، في أي زمان أو مكان، من خارج المشكلة؟!
يباغتك الصوت الهامس وأنت تنطق بكملة الاعتراض الأولى ليضيف قوله:
-لعله أخطأ، لعله تورط فذهب بعيداً، أو لعله استدرج فتاه عن هدفه الأصلي وضاع منه الطريق. لعله جنح فاشتط وتوغل في بحر الدم فلم يعد يستطيع رجوعاً. لكنك الآن، لا تستطيع أن تتجاهله. إنه موجود وفاعل وعنصر لا يمكن إغفاله لمن يبحث عن التسوية المنشودة. هل ينكر مكابر أن “الشبح” يمثل في لبنان، ومن المسيحيين تحديداً، قوة لا يستهان بها؟! بالطبع هو اليوم أضعف مما كان قبل خمسة شهور أو ستة، ألم يظهر، غداة مباشرته “حرب التحرير” وكأنه الأقوى – شعبياً – بين القيادات المسيحية؟! ألم يسقط دويلة “القوات”؟! ألم يحول مقاتليها إلى جنود احتياط في جيشه، يحشون المدافع ويطلقونها في اتجاه الأهداف التي حددها هو؟! ألم يحبس النواب، من المؤتمرين هنا، في بيوتهم؟! ألم يفرض على البطريرك الماروني أن ينزوي منسحباً من دنيا السياسة، مكتفياً ببعض الغمز واللمز في عظات الأحد؟!
كيف يتجاهله الآن الذين واجهوه بالمدافع، أو حتى بالأقلام؟!
ثم كيف يمكن أن يتجاهله المكلفون بإيجاد تسوية تنهي المأساة وتوقف النزف الذييكاد يذهب بلبنان أرضاً وشعباً ودولة ومؤسسات؟!
-أنكافئه إذن على ما فعل؟!
شدد الصوت الهامس على الكلمات وهو يرد بشيء من الحنق:
-من كافأه أو فكر بمكافأته؟! إننا نتعامل معه بحجمه، وكأمر واقع، لو إنه حقق أهدافه وانتصر، لما كان للجنة العربية ضرورة أو دور، ولو إنه هزم لكانت الحاجة إليها قد انتفت. الأمر الواقع، الأرض، المعطيات هي التي فرضت صيغة العلاج الراهنة.
إلى أين تريد الوصول؟!
قائد عصابة هو؟! عال… هذا يعني، بالمقاييس اللبنانية الراهنة، ومع عظيم الأسف، إنه صار زعيماً مثل الآخرين!! ألم يصل سابقوه إلى سدة الزعامة عبر المذابح والحروب ذات الشعارات والأدوات الطائفية؟! فما فضل محارب على محارب، وعصابة على عصابة؟! كل حرب من حروبكم أنبتت زعيماً وقائداً خطيراً، فلماذا تستغربون أن يكون آخر الواصلين؟!
ماذا فعلت له وبه اللجنة العربية؟!
لقد رفضت أن تتعامل معه وكأنه “الممثل الشرعي الوحيد” للمسيحيين أو حتى للموارنة في لبنان،
لكنها لا تستطيع أن تشطبه من المعادلة،
لندقق في ما تم حتى اليوم: كان يقول إن لا ند له في لبنان. إنه الأوحد وكان يريد لجنة أمنية تضمه، باعتباره لبنان، وسوريا. هذا لم يكن، وبالنتيجة فقد قامت اللجنة الأمنية لبنانية – لبنانية واضطر إلى المشاركة فيها كواحد من خمسة أطراف في لبنان، وكواحد من طرفين مسيحيين إلى جانب “القوات”.
في ضوء هذه الوقائع، هل ترون إن اللجنة العربية قد رفعت “الجنرال”؟!
ثم، هل يمكن نسيان حقيقة كبرى مفادها إن الرجل الذي كان يطلب رئاسة الجمهورية ويشق الطريق إليها بالمدفع، ولو دمر الجمهورية ، قد أخرج من حلبة السباق نحو سدة الرئاسة فلم يعد يذكر حتى كمرشح محتمل؟!
كان يمنح إجراء الانتخابات إلا إذا كانت من باب استكمال الشكل، أي لتنصيبه بقوة “الديموقراطية” والدستور وأصوات ممثلي الشرعية، النواب،
وها نحن قاب قوسين أو أدنى من انتخابات الرئاسة، بل ومن إعادة بعث الدولة بمؤسساتها الشرعية كافة،
ساد الصمت لحظات، ارتاح خلالها “الهامس” ثم عاد يقول:
-هو الآن واحد من خمسة في اللجنة الأمنية، فما المانع من أن يكون واحداً من عشرة، أو عشرين في الحياة السياسية، على الأقل في المدى المنظور، وبعد ذلك يقرر الصراع السياسي المفتوح – في ظل صمت المدافع – من يبقى ومن يزول من أمراء الحرب – أمراء الطوائف الذين يصادرون الآن الحياة السياسية في لبنان؟!
“الشبح، الشبح، إلينا إلينا أيتها اللجنة”!
“الثمن، الثمن، إلينا ، إلينا، أيتها اللجنة”!
… أما مناقشات السادة المؤتمرين من البرلمانيين اللبنانيين فضرورة من أجل أن يكون كل شيء بالقانون وعملاً بأحكام الدستور. ولو معدلاً.
وفي الليل الصحراوي لمصيف الطائف الملكي يحلو السمر، في انتظار أن يستكمل العقد الجديد بنوده وأن يفرغ الكتبة من صياغته.
وطريق الطائف – بيروت لا بد تمر بنيويورك حيث يحتشد الآن وزراء دول القرار، وبواشنطن التي من دون تزكيتها لا يمكن أن تتحرك باريس التي ثبت أن “الجنرال” لا يفهم إلا لغتها في حديث السلام.
… أما بغداد فقد قالت ما عندها و”بأقوى” الكلام!

Exit mobile version