طلال سلمان

على الطريق حوار الهمس والخوف أيضاً وأيضاً… من يضع الصيغة يضمنها والتسوية تحتاج مواجهة كما الاستقلال!

قصر المؤتمرات في الطائف مبني لكي يستوعب الأزمات، مهما كانت خطيرة ومعقدة ومتعددة الأطراف،
إنه، متى بلغته، يكشف عن اتساع يزيد عما توقعته من خلال واجهته، وبالذات من خلال موقعه في تلك الوهدة المسورة بالتلال. ثم إنه فسيح الجنبات، يوصلك البهو فيه إلى بهو آخر، ويتفرع البهو إلى ابهاء تربط بين القاعاة الكثيرة، وبين كل قاعة للاجتماعات والقاعة التي تليها قاعات و”أركان” للكولسة والوشوشة والمساومات (والوعود أو التعهدات) الضرورية للوصول إلى الحل الوسط المطلوب.
على الباب الخارجي للقصر الأنيق تقف الشرطة العسكرية بالسلاح لمنع دخول الأسئلة، وعند المدخل تتكاثر الكوفيات الحمراء المكلف أصحابها بالتاكد من أن الخارجين تركوا ألسنتهم وأوراقهم في الأجنحة المختارة رياشها بعناية وذوق مرهف.
ممنوع دخول الكلام، وممنوع خروجه، فالمؤتمرات كالمجالس بالأمانات، وكل الأجهزة مستنفرة هنا لحراسة الصمت… فالكلام قبل موعده مؤذ حكمه حكم المخرب والمتآمر على سلامة الحل الموعود!
وثمة افتراض يكاد يتحول إلى مسلمة بأن الكلام هو مصدر العلة في لبنان، وإن الخرس هو الدواء الشافي للديموقراطية المريضة في بلاد الأرز!
ربما لهذا، بين أسباب أخرى، “نزل” خبر لبنان في الصحف السعودية من رأس الصفحة إلى متنها، ومطت التفاصيل لكي تملأ المساحة المخصصة لهذه الأزمة الوافدة بكل ما فيها من مآس وغرائب وطرائف.
هذا إذا اعتبر ما ينشر من تفاصيل عن التفاصيل اللبنانية التي، لا تنتهي خبراً.
ويوماً بعد يوم تتسع مساحة الضجر، وتفتقد الكلمات معناها، نتيجة للتكرار… وفي حين كان الصحافيون “يطاردون” النواب صار النواب هم الذين يطاردون الصحافيين ويأتون إليهم لعل الحديث المباشر يمد الكلمات الخاوية ببعض المضمون المفقود.
قصر المؤتمرات كثير القاعدة، ولكل قاعدة كلامها وسادة الكلام فيها،
قاعة الاجتماعات للخطابة وتسجيل المواقف وإثبات الحضور،
أما في الكواليس فيعتمد الهمس لغة، في حين يتناقص عدد المتكلمين وكذلك عدد السامعين.
… ويبقى بعض الكلام الحميم للأجنحة والغرف المغلقة بعناية والسميكة جدرانها بحيث يطمئن القائل والسامع إلى أن لا ثالث لهما إلا الله وملائكته الأبرار!
ولقد كانت للكلام، في بداية الأمر، وجهة، وله الآن وجهة أخرى.
بدأ الكلام متعثراً بين النواب، وكان لا بد من بعض الوقت ليعثر على سياقه وينتظم مقترباً من صورة الحوار، ولكنه حتى هذه اللحظة لم يستو حوار له بدايته ومتنه وخاتمته المنطقية على شكل قرار.
فثمة أسئلة لا يملك النواب أنفسهم أجوبة لها، بل لعلهم، في حالات كثيرة، بين السائلين.
ثم إن بين الموضوعات ما يلامس العلاقات العربية – الدولية، وهذه لا يملك حق الحديث فيها إلا اللجنة، والنواب جميعاً في موقع طالب الجواب المطمئن، حتى الذين سبق لهم أن سألوا فسمعوا وأظهروا الاطمئنان.
واللجنة صبورة، تقول وتعيد. كلامها مختصر مفيد، وليس في موقفها جديد. لكنها تهب إلى العمل كلما تنامى إلى سمعها إن أحداً من النواب قد شط في الكلام أو تطرف، فتجلس إليه وتشرح ما سبق أن شرحته مراراً وتكراراً، وتعيد التوكيد على الضمانات التي أعلنتها ثم جددت التزامها بها في كل مناسبة.
ومنطق اللجنة هو هو لم يتغير ولم يتبدل منذ اللحظة الأولى: – هذه الوثيقة أعددناها بعد اتصالات مكثفة ومضنية شملت الأطراف المحلية جميعاً، والدول العربية بلا استثناء، ودول القرار في العالم، بغربه والشرق وعدم الانحياز، لقد التقينا كل صاحب رأي أو صاحب دور في لبنان، وسافرنا إلى عواصم الدول الخمس الكبرى، واعدنا الاتصال بالقادة العرب جميعاً وكنا نبلغهم بما نتوصل إليه أولاً بأول، ثم إننا عند إنجاز هذه الوثيقة، في ضوء ما سمعنا، ومع الاسترشاد بكل ما كان قد أعد من مشاريع للتسوية في لبنان، أودعناها المعنيين جميعاً، العرب والغرب والشرق ومجلس الأمن الدولي والأمانة العامة للأمم المتحدة.
“باختصار فإن هذه الصيغة ليست مجرد اجتهاد منا. إنها حصيلة ما تسمح به معطيات الوضع العربي، والدولي للتسوية في لبنان، في اللحظة السياسية الراهنة.
“بمعنى آخر فهذه صيغتي التي أضمن أن يقبلها العرب وأن تسلم بها الدول. هي صيغة تلزمني وتلزم كل القوى التي أعلنت دعمها وتأييدها لقمة الدار البيضاء وقراراتها واللجنة العربية الثلاثية المنبثقة عنها والمكلفة منها.
“بالطبع لكل مطلق الحرية في أن تناقشوها وتقولوا رأيكم فيها. ولكم حتى أن تعدلوها. لكن واجب الأمانة يقتضي أن أبلغكم وبصراحة إن التعديل ليس مجرد تغيير في النصوص، إنه سيكون خروجاً على التزام. هذه صيغتي وأنا أضمنها، أما إذا ما عدلتموها وارتأيتم وضع صيغة أخرى فتلك مسؤوليتكم. أنتم أحرار، لكني معكم إذا قبلتم صيغتي. لن أرفض أية صيغة تضعونها، لكنها لن تكون – كهذه – بضمانتي وتحت رعايتي ومن ثم مسؤوليتي.
“من يضع الصيغة هو المسؤول عن تنفيذها، كما عن تعذر تنفيذها وضياع آخر فرصة للحل، كما يقولون جميعاً.
“هذه الصيغة هي محصلة توافق عربي ودولي مع مقتضيات التسوية الممكنة في لبنان، والخروج منها وعليها قد يؤدي إلى فرط هذا التوافق الذي أمكن التوصل إليه بشق النفس.
“إننا نعرف ما ينتظركم في بيروت. نتفهم مخاوفكم وهواجسكم. ونحن نعمل بكل ما في وسعنا لتأمين الجو الصحي الملائم للتوافق بين مختلف الأطراف اللبنانيين على هذه الصيغة واعتمادها قاعدة للتسوية العتيدة، إننا على اتصال بالجميع، نتحرك ونحاول تحريك قوى الضغط حتى لا تواجهكم صعوبات أو مخاطر جدية، ولكن لا تطلبوا منا ما يتجاوز قدراتنا.
“إن اللجنة العربية الثلاثية معكم الآن، ومعكم حتى تتحول هذه الصيغة من مشروع وثيقة إلى أسس لإعادة بناء الدولة في لبنان. لن نتخلى عن مسؤوليتنا بمجرد عودتكم إلى بيروت، بل سنكون معكم هناك أيضاً، نواصل جهدنا لتذليل العقبات. وسنواجه معكم المعترضين والاعتراضات.
“أكثر من هذا: نحن نعرف إن ما أنجزتموه حتى الآن، وما سوف تنجزونه سيظل حبراً على ورق حتى يتم الإنجاز بالتنفيذ في بيروت”.
لكن إقناع النواب، أو بعضهم، صعب، وبعض الأسئلة المعلقة تحتاج إلى ما يتعدى تطمينات اللجنة وضمانتها،
وكالعادة، تبدأ المسألة يطرح بعض الهواجس، ذات الطابع المحلي ثم تكرج إلى المستوى العربي، ثم تصبح أزمة دولية لا بد من علاجها مع القوى العظمى.. فكل ما في لبنان، ومنه وما يتصل به شأن دولي خطير.
وهكذا تتحرك اللجنة من جديد: يذهب الفيلالي إلى نيويورك لإجراء مزيد من الاتصالات، تتصل جده ببغداد، يستدعى سفراء الدول ذات التأثير المفترض على القوى المعترضة على وثيقة الوفاق الوطني أو بعض بنودها.
ولبنان شأن دولي خطير جداً، لكن للدول العظمى مشغوليات واهتمامات أخرى، وبعضها أهم من التفرغ لمعالجة خوف بعض الخائفين من شبح الجنرال.
ثم إن حكاية هذا الشبح تعيد طرح السؤال القديم: هل هو الشخص، أم هو المناخ، أم هو “الشارع”، ومن المسؤول عن خلق هذا المناخ، ومن المستفيد منه، ومن هو المطالب بالتصدي للطروحات الخاطئة التي وظفت من أجل استنفار طائفي يعطل العقل ويجهض احتمالات التسوية السياسية لمشكلة هي بطبيعتها سياسية؟!
ومع إنها ليست محاسبة على الماضي، فمن المفيد استعادة بعض الوقائع المنسية، ومنها ما يتصل بالظروف التي رافقت ولادة الاستقلال ودولته بنظامها الفريد.
فصيغة 1943 لم تكن مرضية لجميع اللبنانيين. كانت ثمة قوى مؤثرة تعارضها ومن موقع الارتباط السياسي بجهات أجنبية المحصن بقشرة من التعصب الطائفي. لكن القيادة السياسية، آنذاك، اعتمدت على الدعم الشعبي وعلى قرار عربي – دولي استولدته لحظة سياسية مناسبة، وواجهت الاعتراض “الشعبي” الذي كان يحظى بدعم أجنبي واضح.
اعتقل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وبعض الوزراء، عطل مجلس النواب، وقامت الدولة المنتدبة بتظاهرة عسكرية لدعم القوى المعترضة على الاستقلال.
لكن قليلاً من الصمود الوطني العام، وقدراً من الشجاعة الشخصية في مواجهة المعترضين الذين عادوا إلى السلطة بقوة حراب الأجنبي، مع الدعم العربي المعزز بتأييد دولي.. كل هذا مجتمعاً حسم الأمر، وعاد رجال الاستقلال إلى مواقعهم في السلطة، وأدين “زعيم المعارضة” المستقوي على شعبه بالمنتدب وطويت صفحة سوداء في تاريخ لبنان الحديث.
اللجنة قالت ما عندها.
ويبقى أن يقول النواب ما لا بد من قوله لفتح باب التسوية العتيدة، خصوصاً وإنهم سمعوا من اللجنة مراراً وتكراراً إنه لم تعد ثمة حاجة لأي اتصال مع دمشق.. فدمشق قد أعطت اللجنة ما طلبته منها،
والباقي في بيروت ومطلوب منها،
وبيروت أوسع بكثير من أن يملأها ويشل حركتها شبح،
ومستقبل لبنان أخطر من أن تتحكم به الأشباح والهواجس والظنون التي استولدتها المرارات أو المصالح،
ومؤكد إن اللجنة لن تستمر متفرغة للبنان وتفاصيله التي لا تنتهي، ولن تبقى تؤكد بلا ضجر إنها تضمن وتلتزم وإن صيغتها أقوى من أن يهزها أو ينقضها “الأشباح”.

Exit mobile version