يميناً در!..
ولكن أين “اليمين” تماماً، طالما قد سقط “اليسار” فسحب من التداول؟!
وفرنسا التي أسقطت أمس، وبالانتخاب، أحزاب “اليسار” الرسمي لم تعد إلى “اليمين” باختيارها، بل لأن لا خيار أمامها إلا… الضياع بين “يميني” أحدهما مموه بلافتات الاشتراكية المبتورة، وثانيهما مدان بالعجز التاريخي عن حل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا ما بعد الإمبراطورية وتراثها الاستعماري العريق،
إنها فترة انتقال بين حكم “يساري” ظل دون “اليمين” في عصبيته الوطنية، وغن كان تفوق على أهل اليمين في فساد رموزه وقياداته وتصور برنامجه الاقتصادي، وبين حكم “يميني” يستعيد مواقعه في سدة السلطة بسبب ضعف المنافس أو البديل عن الاحتفاظ بها وليس بسبب من كونه قد جدد نفسه بما يبرر ادعاءه بأنه “المؤهل” لحل المعضلات التي ورثها “اليسار” عنه ثم عادت إليه مثقلة بتركة خصمه الفاشل.
هل هي الرغبة في التغيير، ولو تمثل في استعادة القديم؟!
ألم تكن موجة “التجديد” هي التي حملت هذا اليسار الفرنسي المعتل إلى السلطة في العام 1981؟!
ألم يكن بين أسباب فوز فرنسوا ميتران على فاليري جيسكار ديستان قبل 12 سنة رفض المزاج الفرنسي لفكرة أن يبقى رئيسه هو رئيسه لولايتين أي لأربع عشرة سنة؟!
أين التجديد، إذن، في العودة إلى “القديم” بل المعتق، خصوصاً وإن ديستان ذاته يرجع إلى الساحة وقد شارف – مثل “خصمه” – على الثمانين بينما الشريك – الخصم الآخر جاك شيراك قد تجاوز السبعين؟!
هل هَرم المجتمع الفرنسي!
هل شاخ شباب ثورة الطلاب 1968 الذين يتباهون بأنهم أسقطوا بطل فرنسا الجنرال شارل ديغول، والذي عنونت الصحف خبر وفاته بأن “فرنسا قد غدت أرملة”؟!
وما الفارق بين يسارية ميتران وبين يمينية شيراك – ديستان طالما أن “أرملة الجنرال” مرتهنة الإرادة والقرار للهيمنة الأميركية؟!
هل انتهى عصر الوطنيات، شرقاً وغرباً، كما انتهى عصر العقائد والأيديولوجيات، وانحصر “التنافس” على مواقع الأقرب إلى “السيد” الأميركي والمعتمد منه في “إقليمه”؟!
لكن روسيا الخارجة من الشيوعية تخوض حرباً ضد “المعتمدين” أميركياً تحت لافتة “الوطنية” والعصبية الروسية التي لا تجد لها من حليف موضوعي إلا قدامى الشيوعيين!
كذلك فألمانيا التي انتصرت بالوطنية على جدار برلين لا تجد سبيلاً لتأكيد تمسكها بوحدتها الوطنية إلا عبر شيء من الابتعاد عن “السيد” الأميركي بالسعي إلى وحدة أوروبية مرجوة ومطلوبة ولو بتنازلات للجيران تعزز المواجهة مع الحليف الأعظم عبر المحيط؟!
… وهذه هي موجة الوطنيات تعلو في مختلف الأقطار الخارجة عن النظام الشيوعي المنهار، من دون أن تجد لنفسها مكاناً لائقاً وشرعياً في المعسكر الرأسمالي الذي صار “معسكراً” بالفعل، وبرغم انتفاء الخصم، له قائد أوحد والأمر اليومي أن يعمل الجديد لازدهار اقتصاديات “السيد” إذ أن ذلك شرط استمتاعهم بخيرات نظامه العالمي الجديد: فإذا ما استمر ضعيفاً في اقتصاده انهار الاتباع فاندثروا في الفوضى الشاملة والحروب الأهلية المفتوحة.
ما يعنينا من هذا كله أن “العرب”، بمجمل أنظمتهم، خارج هذا السياق: فليس بعد موقعهم الراهن في “اليمين” يمين يلجأون غليه!
لكن “اليمين” عندهم يواجه الوطنية ويقاتلها حتى يكاد يلغيها،
لقد اندفع بعض رموز العمل السياسي العربي، ومن موقع السلطة، إلى أقصى اليسار مزايدة ومراهقة فخرجوا على العروبة – أي على القومية – وعلى الوطنية، وقبل ذلك على الاشتراكية كعلم وكنظرية في الحكم،
وها هم رموز اليمين العربي الحاكم منذ أجيال ينتصلون أكثر فأكثر، ويومياً، من قوميتهم ومن وطنيتهم، ويرتضون لأنفسهم “ولرعاياهم” موقع الاتباع المسلوبي الإرادة، المكومين بالعجز الأبدي، المستعدين لأن يسلموا الارض والثروة والمصير “للسيد” الأميركي، أو لمن ينوب عنه، أي للإسرائيلي، مقابل أن يستنفذوا أنفسهم وحياة العبيد التي يعيشونها ويستمتعون بدوامها وكأنها نعمة من نعم العلي القدير!
أما كلفة ذلك فيدفعها “رعاياهم” حروباً أهلية متفجرة دموياً كالتي تتم فصولها أمام عيون العالم في الجزائر ومصر وأقطار أخرى، أو مطاردة لا تنتهي لرغيف الخبز الذي تمت التضحية بالكرامة بذريعته، فذهبت الكرامة ولم تتوفر اللقمة الحلال!
على أن ما يستوقف في أمر التجربة العربية مع الديموقراطية، إذا جاء التعبير، هو أن الغرب عموماً و”السيد” الأميركي خصوصاً. لم يظهرا عليها أي قدر من الحرص: ففي الجزائر دعمت واشنطن “الانقلاب” للتخلص من نتائج أول ممارسة شبه ديموقراطية بذريعة الخوف من “الأصولية” التي فازت في الانتخابات، وفي مصر تدعم واشنطن النظام الذي يلجأ إلى حل مجالس النقابات “الشرعية” بذريعة أن “الأصوليين” قد تسللوا إليها فاحتلوا قياداتها لأن جماعة النظام رفضوا “ديموقراطيته” فلم يشاركوا في التصويت!
لكأنه قدر على العرب أن يعيشوا في ظل أنظمة تخرجهم من قوميتهم ومن وطنيتهم ومن أرضهم، وحتى من دينهم، بحجة تأهيلهم لنعم النظام العالمي الجديد وبينها الديموقراطية، ثم تحرمهم من الديموقراطية بحجة تأمين الرغيف، فإذا ما طالبوا بالرغيف المفقود اتهموا بالتطرف والجنوح إلى الغرهاب فعاقبهم حاكمهم الدكتاتور شر العقاب ليستمر اعتماده “رجلاً قوياً” و”صديقاً” للولايات المتحدة الأميركية و”عضو شرف” في “العالم الحرب”!
… فهل يبقى غير الرصاص وسيلة لفتح طريق إلى الغد… أي غد؟!
على الهامش
قبيل إبادة الأهالي في البوسنة والهرسك، انفتحت أبواب السماء الأميركية وتهاطل منها البسكويت والطحين والملابس على هؤلاء البؤساء، ولاسيما النساء المغتصبات اللواتي يشكلن مجموع الإناث في تلك الأرض التي حولها الصراع الغربي –الغربي، إلى جحيم وقوده الأقليات “الشرقية”.
أما في فلسطين المحتلة، وفي جنوب لبنان المحتل، فإن المساعدات الأميركية تستخدم لإبادة شعب، بشيوخه ونسائه وشبانه وأطفاله وحقوق الإنسان طيبة الذكر!
آخر ضحايا المساعدات الإنسانية الأميركية في غزة المحتلة فتى في الثانية عشرة من عمره!
“المنقذ” في البوسنة “قاتل” في فلسطين، ولو باليد الإسرائيلية،
ينقذ “السبايا” و”الشهداء” و”الأسرى” هناك بالبسكويت، ويقتل “القضية” هنا،
هنا بعض ملامح النظام العالمي الجديد!
السبيل إلى الوظيفة
تقدم أكثر من عشرة آلاف شاب لبناني، من جيل الحرب، إلى “مباراة” الدخول إلى سلك الدرك،
وتقدم أكثر من اثني عشر ألف شاب إلى مباراة الدخول إلى سلك الأمن العام،
وسيتقدم غداً مثل هذا العدد أو أكثر إلى مباراة الخفير الجمركي أو أية “وظيفة” أخرى “رسمية” لها مرتب شهري مضمون لا يصل في الغالب الأعم إلى ثمانين دولاراً اميركياً.
بين هؤلاء عدد كبير من حملة الإجازات الجامعية، وعدد أكبر ممن هم على باب التخرج من الكليات النظرية والعلوم الإنسانية.
من يفكر بهؤلاء؟!
من يعنى بمستقبل هؤلاء الذين يشكلون أداة إعادة الإعمار وبعض مرتكزات خطة النهوض الاقتصادي العتيد؟!
ألا سبيل آخر على الوظيفة إلا الميليشيا الطائفية والمذهبية؟!
وهل على اللبنانيين جميعاً الانتظام في اردأ أشكال انقسامهم، وعلى عتبة الحرب الأهلية الجديدة؟!