سقاطة هي التبريرات وساقطون هم المبررون، ومرفوضة سلفاً البيانات “التفسيرية” والبيانات المضادة، وسقاطون أصحابها ممن يهدرون دم الضحايا بعدم هدرت قياداتهم بتصرفاتها غير المسؤولة أمن جنوب الوطن وأرزاق الجنوبيين وحياتهم وقضيتهم عبر هذه الحرب الإسرائيلية في إقليم التفاحز
ساقطون هم بشهادة بياناتهم ذاتها،
فليس على المواطن إلا أن يصدق ما أوردته بيانات الطرفين من اتهامات خطيرة ليقطع الشك باليقين فيستوثق من الطبيعة الإسرائيلية لحرب “الأخوة” في الدين والمذهب والإيمان بقضية المسضعفين من المحرومين من وطنهم وفي وطنهم!
وسقاط بالطبع توصيف هذه الحرب بأنها “عبثية”،
فليست عبثية هذه الفتنة التي أيقظها فعل فاعل ونتيجة أمر دُبر بليل لتدمر أسطورة الصمود الوطني – القومي – الإسلامي لأهلنا في الجنوب،
وليس من العبث أو من علم الغيب جاء كل هذا السلاح الثقيل، وكل هؤلاء الطوابير من “المقاتلين” الذين يثبتون كفاءة عالية في تدمير المدن والبلدات والقرى التي حماها أهلها بصدورهم العارية وبلحمهم الحي وبالحجارة وبالزيت المغلي وبالعصي وسكاكين المطبخ.
لكأنما “المقاومة” قد ارتحلت أو وهنت وهزل عودها مع “ورود” السلاح الثقيل والأموال الثقيلة إلى الذين كانوا يقاتلون بالإيمان وحده، الايمان بالله والايمان بالأرض والايمان بحق إنسانها فيها.
لكأنما “المقاومة” وكل ما هو ثقيل، من السلاح إلى المال إلى الشعارات، خطان متوازيان لا يلتقيان أبداً،
ولنا من تجربة المقاومة الفلسطينية عظة وعبرة: فبقدر ما ثقل سلاحها ثقلت همتها وأنفض عنها “الفدائيون” ليلتف حولها المرتزقة وأصحاب الحسابات وأهل الواقعية ومفذلكو الاستسلام لمقتضيات الزمن الرديء!َ
ليست عبثية هذه الحرب القذرة في أهدافها وتوقيتها وفي مكانها الذي – بالمصادفة؟! – يقع على مرمى حجر من مواقع الاحتلال الإسرائيلي، وبالضبط في مرمى مصالحه الحيوية وأغراضه الاستراتيجية المعلنة.
إنها حرب على المستقبل.
وهي حرب إسرائيلية بالنتائج المباشرة والبعيدة… أفليس الأقوى هو الأقدر دائماً على الافادة من دماء الضحايا ومن أخطاء المغامرين والمقامرين والعجزة ومن أعماهم التعصب أو الغرض؟!
إنها صفحة شوهاء في تاريخ هذه المنطقة التي وحدها في لبنان رفعت رأس اللبنانيين والعرب والمسلمين وأدخلتهم تاريخ الثورة الإنسانية على القهر والظلم والعنصرية والاستعمار الاستيطاني من أوسع أبوابه.
إن البيانات الركيكة تدين مصدريها، ليس إلا،
فالكل كان يعرف إن هذه الحرب آتية لا ريب فيها، وكان يحدد لها الموعد والاستهدافات وأرض العمليات بدقة متناهية.
وإذا كانت المحاسبة تأخذ في الاعتبار حجم الأطراف المتهمة أو المدانة، فإن ما تتحمله “حركة أمل” من المسؤولية عن هذه الحرب يظل أقل بكثير مما يمكن أن تتحمله الثورة الإسلامية في إيران التي طمحت، قبل عشر سنين فقط، على تغيير العالم، ولا يرضى لها أحد أن تنتهي أو ينتهي بها الطموح عند بعض التعديلات أو التغييرات في خريطة الكيان اللبناني الممزق.
… خصوصاً وإن المستفيد من مثل هذه التعديلات ، لو تمت، سيكون العدو الإسرائيلي الذي يباركها ويتابعها عن كثب ويتركها تتكامل فصولاً أمام ناظريه، ولن تكون إيران ولا ثورتها الإسلامية ولا حرسها الثوري بين المستفيدين مهما تزايدت أعداد متطوعيه في لبنان.
والسؤال الخطير الذي يفرض نفسه على الناس جميعاً هو:
ما مصلحة إيران، إيران الخميني والثورة الإسلامية، في مثل هذه الحرب، التي مهما اجتهد سياسيوها وسفراؤها ودعاتها ومناصروها فلن يستطيعوا تبريرها؟!
بل هم لن يستطيعوا التعامي عن كونها، بالنتيجة، حرباً على إيران ذاتها وثورتها الإسلامية العظيمة!
ثم إن هؤلاء جميعاً لن يستطيعوا استثمار “النصر” لو تحقق لهم، وبغض النظر عن كلفته الباهظة التي سيدفعها أهل الجنوب من دمائهم ومن عقيدتهم الجامعة – نظرياً – بينهم وبين أخوتهم من الثوار باسم الإسلام في إيران وقد حررها الايمان بدين الله ورسالته الخالدة من أدران العصبية الفارسية وبدع الزرادشتية والبهائية وسائر الوثنيات.
وبصراحة يفرضها الدم المراق يلتفت كل لبناني إلى القيادة الإيرانية منبهاً إلى أنها تخسر في لبنان وأرض العرب قاطبة مساحات بآلاف الكيلومترات وأعداداً ممن آمنوا بثورتها الإسلامية بالملايين، مما لا يمكن أن يعوضه أن “يحتل” أو “يحرر” مناصروها بعض القرى المحروقة في إقليم التفاح أو بعض من يتبقى من أهلها فيها بعد انتهاء هذه الحرب… إذا ما افترضنا أن لها نهاية قريبة.
ومع الوعي الكامل بأن المواعظ الأخلاقية والمناشدات والتوسلات والتحذيرات من المخاطر قد فات أوانها وتلاشى تأثيرها الأولي المحتمل، فلا بد من التوجه إلى قيادة إيران ومطالبتها بأن تلقي بثقلها لوقف هذه المذبحة التي سيكون في مقدم ضحاياها وهج الثورة الإسلامية في إيران،
فأين تكون الثورة إذا ما اندثر جمهورها وتوزع بين قتيل وجريح ومشرد ومهجر ومهاجر ومستسلم لواقع الاحتلال الإسرائيلي؟!
وأين سترتفع أعلام الثورة الإسلامية بعدما تحصد مدافع الفتنة البيوت التي كانت حتى الأمس قلاع صمود في وجه الأطماع الإسرائيلية ومشاريع توطين اليهود الجدد المستوردين من أقاصي الأرض ليرثوا أهل الجنوب (وهم أحياء) بعدما ورثوا – عنوة – أهل فلسطين، بمن في ذلك من ما زالوا أحياء حتى اللحظة وعلى أرضها؟!
ولقد تكون “حركة أمل” مطالبة بالكثير، وقد تكون مسؤوليتها هي الأخرى عن هذه الفتنة ثقيلة جداً،
لكن العذر الأول “لحركة أمل” يتصل بحجمها، قياساً بحجم الثورة الإسلامية في إيران،
والعذر الأخير يتصل بواقع أن مثل هذه الحرب لم تقع عندما كانت “تتفرد” أو “تنفرد” بممارسة شكل ما من أشكال “السلطة” أو حتى “التسلط” في الجنوب,.
هذا بغير أن ننسى إن طريق تحرير القدس لا يمكن أن تكون صحيحة وسليمة إذا هي امتلأت بجثث الذين حموا أرضهم من أن يمتد إليها أو يدوم فيها دنس المحتل ذاته للقدس ومسجدها الأقصى وصخرتها المشرفة ومعراج النبي العربي (صلعم).
وأخيراً فمن حق اللبنانيين أن يسألوا اهل الثورة الإسلامية في إيران وأين نحن؟! أين أحلامنا، أو أوهامنا، في الحل والسلام والوفاق الوطني الذي هو الشرط الأول من شروط تصليب إرادة الصمود وإرادة المقاومة وإرادة التحرير؟!
وماذا ينفع فلسطين أن يخسر العرب والمسلمون لبنان، بدءاً من جنوبه وانتهاء بجيوب الاختراق الإسرائيلي للنسيج الاجتماعي اللبناني، داخل بيروت ومن حولها وخارجها وليس في “الشرقية” وحدها؟!
… خصوصاً وإن مثل هذه الحرب توسع دائرة هذا الاختراق وتصطنع له المعاذير والتبريرات الظرفية!
وما سر هذا التوقيت العبقري لحرب على الجنوب وبين أهله، في حين كانت المساعي والجهود قد حاصرت بعض أبطال الحرب على الحل في شرقي بيروت، وعلى رأسهم جنرال التعتيم ميشال عون وحكيم التقسيم سمير جعجع؟!
إن الأنظار والآمال متجهة بعد إلى طهران، لعلها تنقذ من تبقى من الجنوبيين ومن الجنوب في إقليم التفاح وبعده،
وإذا كان بعض أصدقاء طهران وبعض ناصحيها يشيرون إلى أن الرئيس حافظ الأسد يملك من النفوذ على القيادة الغيرانية ما يمكنه من إقناعهم بإضافة حرصهم على لبنان (وجنوبه خاصة) واللبنانيين إلى حرصه الشخصي وحرص سوريا، فإن الفرصة المتاحة بعد لمثل هذه المحاولة ضيقة جداً وتوشك أن تضيع كما ضاع غيرها من الفرص ننتيجة التعنت أو التعصب الحزبي أو ضيق الأفق السياسي أو طغيان الغرض الذي هو مرض،
ودمشق هي الآن المعنية أكثر من أية جهة أخرى،
فمن دمشق وفيها وعبرها يأتي الحل الموعود، أو يتعذر قدومه فتصير الحرب حروباً لا تبقي في مختلف أنحاء لبنان ولا تذر.
… وطريق طهران إلى لبنان، وحتى إلى جنوبه، تمر بدمشق أو هي تتحول إلى طريق مسدودة، إن هي لم تتحول إلى طريق للانتحار.