لولا إننا نعيش سنة عاشرة من سنوات الحرب الأهلية المفتوحة،
ولولا إن بعض مساحة البلاد، وبعض إرادتها وبعض قرارها السياسي، يرزح تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي،
ولولا إن الوحوش الطائفية والصراعات المذهبية و”تشبيحات” العشائر المسلحة تلتهم حيوية الناس وقدرتهم على التفكير والتدبير والاهتمام بما هو خارج همومهم اليومية المتكاثفة من الأمن الشخصي إلى الأمن الغذائي (حتى لا ننسى الآثار المعيشية المدمرة لارتفاع سعر الدولار على يد المافيا المعروفة المجهولة)…
لولا هذا كله، وما يتفرع عنه، لكان الوضع الطريف القائم في أعلى مستويات السلطة في لبنان جديراً بأن يخلد – بالصوت والصورة – ليستخدم في إدخال البهجة على نفوس الثكالى والحزانى واليتامى والأيامى، أو في استدراج النوم إلى عيون المسهدين بالقلق على مصير الوطن والذرية الصالحة!
فماذا أطرف من هذا الخلاف المستشري على مبدأ انعقاد مجلس الوزراء بحيث تكاد لا تعقد جلسة إلا بوساطة من دمشق وبضمانات منها، مرة للحكم ومرة لبعض الحكومة.
وماذا أطرف من هذا الجدل العقيم حول ماذا يكون الأول: مجلس وزراء تليه خلوات، أم خلوات يتوجها مجلس وزراء؟! وهل ينعقد المجلس في جلسات دورية، كما جرت العادة، واستثنائية ، تقديراً لخطورة الظرف، أم يتصل انعقاده ويستمر على شكل خلوات حتى الوصول إلى تفاهم وتناغم وتقاسم، لا فرق أتم ذلك في يوم، في شهر، في سنة، أو في ما تبقى من عمر الحكم والحكومة أو عمر المحكومين؟!
وماذا أعجب وأغرب من أن يلتقي قطبان – وزيران على التشكي علناً وفي مهرجانات جماهيرية من جهاز في الدولة ومن ضابط بالذات يرئس شعبة في هذا الجهاز، كأنما الحشد المنتشي بما يقولانه هو المرجع الصالح لإحالة هذا الضابط إلى مجلس التأديب. أو إلى النيابة العامة العسكرية ومن ثم إلى المحكمة لمحاسبته عما وجه إليه من تهم خطيرة؟!
ثم ماذا أعجب وأغرب من أن يكون رد فعل جهات رسمية في الدولة على الاتهامات – وبعضها صادر عن وزير العدل – باهتاً وبارداً ومحايداً ومشككاً، حتى لا نقول أكثر، بينما الأمر يتصل بأمن البلاد وقياداتها السياسية والسلامة العامة؟!
كل هذا والرئيس رشيد كرامي يزداد تفاؤلاً ولا يرى من الأمور إلا ما يعكس حيوية الممارسة الديموقراطية،
… والرئيس كميل شمعون غير معني إلا بأن يحظى مرشحه بالذات بحاكمية مصرف لبنان، حتى لا يتم التلاعب بالدولار من وراء ظهره،
وفي غمرة الانهماكات والمعارك الصغيرة تسلل جوزف الهاشم من إذاعة الكتائب إلى مجلس الوزراء، ليكون بذاته “معركة صغيرة” لم يتوقف الأقطاب كثيراً عندها، وإن كان بعضهم قد طالب على الفور بالمقابل أو ثمن السكوت، مع تسليمه بأنها “حصة الرئيس” وآل الجميل وليس لغيرهم حق “الفيتو”.
أما عموم المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية والإعلامية، الأساسية منها والتفصيلية، فستبقى معلقة، في انتظار اتفاق الحكم وأعضاء حكومته على جنس الملائكة، فإذا ما عجزوا في بعبدا وانتقلوا إلى حيث الهواء المنعش ومياه النعض الباردة في بكفيا، فإذا استمر الخلاف – وهو قطعاً مستمر – أوفدوا بالتناوب ميشال سماحة أو العقيد قسيس أو محمد بيضون أو مروان حماده، إلى دمشق، ثم انتظروا أن يجيء الجواب، وكأن عبد الحليم خدام هو الاختصاصي الوحيد في معركة جنس الملائكة، أو كأن لا شاغل يشغله أو يشغل غيره من المسؤولين السوريين أهم من هذا الأمر الجلل والحيوي لمعركة التحرير والإصلاح السياسي!
لقد كلفت هذه الحكومة أن يزور رئيس الجمهورية دمشق ثلاث مرات، الأولى للاتفاق على تشكيلها وبرنامجها، والثانية والثالثة للتشكي من وزرائها الأساسيين، هذا عدا عشرات الزيارات التي قام بها موفدون منه، وعشرات الرسائل التي بعث شاكياً أو شارحاً أو موضحاً وفي كل الحالات طالباً التدخل.
كذلك فهي كلفت أن يتضمن برنامج وليد جنبلاط زيارة أسبوعية، على الأقل، لدمشق، وفي بعض الأسابيع زيارتين وأكثر، ليدحض ما يعتبره “افتراءات” وتقولات وأحاديث إفك “فبركت” ضده للإساءة إلى علاقته مع المسؤولين السوريين ولمحاولة ضرب علاقة التحالف بين دمشق وبينه.
أما نبيه بري، الأبطأ حركة والمتثاقل في الانتقال إلى دمشق، فينيب عنه من “الأخوة” الأصدقاء من يتولى عنه الشرح ودحض التهم، وتفنيد التقولات وتحميله مسؤولية وضع العصي في دواليب الحكم،
وحده الأفندي يظل جبلاً لا تهزه الريح ولا يحتاج إلى تفسير أو توضيح لما يواجهه من مسائل، فدليله في صدره أو في رأسه، أو في تجربته الغنية مع الحكم والحاكمين في لبنان، ومعرفته الدقيقة لدمشق والقيادة السورية.
وإذا كان الأفندي يرد بالتلميح والإيماء، مختاراً لنفسه موقع رجل الدولة والشريك في مسؤولية الحكم، والحليف الموثوق والمعتمد من الفرقاء جميعاً، في بيروت وبعبدا ودمشق، فإن صراعات القمة تهمش دوره وتضعف قدرته على ضبط الإيقاع وإن استمر يبشر بأن كل شيء على ما يرام والمجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام!!
ماذا يعني الوضعالفريد في هزليته المبكية أم في مأساويته المضحكة؟!
إنه يعني، أولاً، استنزاف دمشق وهدر طاقتها على الفعل والتأثير في أمور تفصيلية وشكلية بمعظمها، بدل أن يستمر دورها الضاغط في اتجاه إيصال الأطراف جميعاً إلى حيث يمكن البدء بحوار جدي بهدف تحديد ملامح الحل السياسي للمسألة اللبنانية والتوافق عليه.
وهو يعني، ثانياً، إضاعة وقت ثمين يحتاجه لبنان واللبنانيون لترميم ما تهدم وخرب من أعصابهم ومدنهم وقراهم وعلاقاتهم وتصورهم الموحد لمستقبل بلد يكون موحداً أو لا يكون أبداً،
وهو يعني، ثالثاً، إن أحداً غير معني بقضية الإصلاح السياسي، فلم نسمع ولم نعرف ولم نقرأ عن مشاريع قوانين أو مشاريع مراسيم أعدت أو يجري العمل لإعدادها، لا في هذا السياق، ولا في ما يتصل بالصلاحيات الاستثنائية الممنوحة لهذه الحكومة لتعديل أو إلغاء المراسيم الاشتراعية المفخخة، التي أصدرتها حكومة الوزان وأقرها مجلس النواب بغير أن يقرأها أحد من المعنيين بالإصدار أو الإقرار!
لقد تضمن البيان الوزاري تعهداً قاطعاً بالعمل لتحقيق إصلاحات محدودة، وهذه الإصلاحات المفترضة تحتاج إلى دراسات جادة وإلى لجان متخصصة تعد الصياغات المطلوبة لتناقش في مجلس الوزراء، فإذا تم التفاهم عليها أحيلت إلى مجلس النواب، خصوصاً وإن بعضها يستدعي تعديلات في الدستور ونسفاً لبعض القوانين المرعية الأجراء،
وإذا كان الحكم قد وافق على مبدأ الاصلاح، مضطراً كما يقول معارضوه، فإن أبسط شروط النجاح في معركة الإصلاح أن يواجهه هؤلاء المعارضون وهم على أتم ما يكون دراسة ودراية واستعداداً وتزوداً بالمنطق والحجة والوعي القانوني،
ثم إن معركة التحرير تحتاج جهوداً هائلة من كل قادر، في الداخل كما في الوطن العربي، وكذلك حيث للبنان والعرب والقضايا العادلة أصدقاء في العالم كله، ونخشى أن تكون المعارك الجانبية والأمور الشكلية قد استنفدت طاقات كانت مطلوبة وضرورية لهذه المعركة التي لا يجوز أن يتقدم عليها أي أمر آخر… خصوصاً وإن المعارضين يستطتيعون “حشر” الحكم وفضح تخاذله، إن صحت اتهاماتهم له بالتخاذل، في هذا المجال، ويكشفونه أمام دمشق التي يمكن أن تتغاضى عن كل ما هو شكلي وتفصيلي ومحلي ولكنها لا تقبل بالتهاون أو التردد أو الهرب من ميدان المواجهة الفعلية مع العدو الإسرائيلي المحتل.
ونستدرك فنقول: إن أحداً لم يتوهم منذ لحظة تشكيل هذه الحكومة إن العلاقات ستكون سمناً وعسلاً بينها مجتمعة وبين الحكم، أو بين أبرز رموز المعارضة (السابقة والمستمرة) والحكم إياه الذي كانت تطالب برأسه عشية التشكيل،
والناس مستعدون لتقبل واقع انتقال الصراع من الشارع إلى القصر، وإلى قلب الحكم، ولكن بشرط أن يتركز على مواضيع الصراع الأساسية وليس على التفاصيل والشكليات، بما يضيع الأمل الباقي وجهد دمشق وإمكانات هؤلاء الأقطاب الذين يريدون الإيحاء لنا بأنهم على كل شيء قديرون، بينما المطلوب منهم أبسط من ذلك بكثير ولا يرتقي إلى مستوى المعجزات بأي حال.
إن المطلوب حماية ما تحقق حتى الآن وعدم إهداره مع مضي الأيام وعبر المعارك الصغيرة، خصوصاً وإنه كلف “حروباً كبيرة” التهمت آلاف الشهداء ومئات القرى وبضع مدن إضافة إلى ما أصاب بيروت الأميرة وضاحيتها النوارة.
والوقت لم يفت بعد،
لكن من الضروري قرع الجرس للتنبيه وتأمين اليقظة، والعودة إلى جوهر الموضوع،
ومرة أخرى نقول للكل: جنوباً در، جنوباً سر، وانتصر!