ها هم يتقدمون متوهجين كالأمل!
ها هم ينتظمون صفوفاً متراصة وقد غادروا مهاجع الأحلام فغدوا أمنيات مشرقة مثل وجوههم، نظيفة مثل أفئدتهم، جياشة مثل عواطفهم، وصلبة مثل إرادتهم المفعمة بالحماسة للتعويض عن النقص في همة الآباء أو في أدائهم!
ها هي الدورة تكتمل والحياة تجدد نفسها بنفسها، والجيل الجديد يتقدم، ممتلئاً عافية، لكي يتسلم الراية.
ها هم بالمئات في كل جامعة من جامعات لبنان يتراصفون لنيل الألقاب العلمية والرتب التي تؤهلهم، من حيث المبدأ، لصنع الغد الأفضل: يستجيبون للنداء ويسابقون الصوت وزغرودة الأهل المكتومة لكي يتسلموا الشهادات التي يفترض أن تشكل نهاية لمرحلة المراهقة والشباب الأول وبداية لمرحلة الصعب وبناء الذات والتعرف إلى الوجه الآخر للدنيا، دنيا المسؤوليات والمشاق والشروط الجائرة لسوق العمل.
إلى أين من هنا؟!
ذلك هو السؤال المنغص والذي يلح عليك (وعليهم) فيكاد يفسد لحظة الفرح اليتيم في هذا العالم المدلهم والحافل بالمشكلات والهموم والطرق المسدودة.
كم من هؤلاء الألوف من أصحاب السواعد الجديدة، من أصحاب الأفكار الجديدة، من أصحاب الإرادات الجديدة، ستكون له فرصة تليق بعلمه مع كرامته، وبطموحه إلى دور في بناء بلده الصغير أو وطنه الكبير؟!
من هو المعني بهؤلاء الآتين وفي ظنهم أنهم يستطيعون بناء عالم جديد، على أنقاض العالم المتداعي الذي خلفه لهم آباؤهم وتركوهم في مواجهته لا يدرون بالضبط من أين يبدأون ويضيعون في تحديد الأولويات لتعدد المهمات المتروكة والآمال المعلقة عليهم؟!
في الجامعات يتنفس الرؤساء والعمداء والمديرون والأساتذة الصعداء: لقد “تخلصوا” منهم، ومن أسئلتهم الملحاحة، ولو خرساء، ومن عبء تمويه الحقائق عليهم وتزيين صورة المستقبل…
إلى من يذهبون بآمالهم، بزخمهم، باستعدادهم العظيم للبذل، للعطاء، للإبداع، وكذلك بحيرتهم في تحديد مسارهم نحو طموحاتهم، أو برغبتهم في معرفة أدوارهم ومكانهم في مجتمعهم فضلاً عن دولتهم؟!
يسمعون أنهم أكثر مما يحتاج لبنان،
ويسمعون كلاماً غير مسؤول من مسؤولين كبار يفترض أن يكونوا هم “الموجهين” وهم “المكلفين” بحكم مواقعهم في أن يساعدوهم على تبين ملامح مستقبلهم والطريق إليه.
ويسمعون من محيطهم تشجيعاً ظاهراً أو خفياً على الهجرة، مع مفاضلة مقصودة عن فرص العمل المتاحة في كندا وأوستراليا والولايات المتحدة، هذا قبل الوصول إلى تزكية بلاد النفط على كل ما عداها من بلاد..
الكل يدفعهم دفعاً إلى التفتيش عن “مصالحهم” وبعيداً عن بلادهم.
لكأنما لا أحد يحتاجهم هنا.
لكأنما لبنان قد بلغ ذروة التقدم العلمي والتطور التكنولوجي والازدهار الاقتصادي فلم يعد بحاجة إلى مهندسين ومبرمجي كمبيوتر وبحاثة ودارسين للتخطيط الاقتصادي والإدارة الحديثة،
فأبواب الدولة موصدة لا يخترقها ويدخل منها إلا المسلح بقوة شكيمة زعيمه الطائفي وتبعيته المطلقة له، على حساب علمه واستعداده لإثبات كفاءته.
ولا مجال لهم في الإدارات الرسمية المهترئة، ولو أتيح المجال بشكل استثنائي لكان على الواحد منهم أن يفني عمره في الوظيفة من غير أن تتوفر له الفرصة لكي يؤمن الشقة والنفقات الكافية لكي “يفتح بيتاً” فيتزوج وينشئ عائلة سعيدة.
اما القطاع الخاص فهو محتكر لأهله ولمن والأهم، ثم أنه أضيق من أن يتسع لهؤلاء جميعاً، في ظل الركود الاقتصادي الذي بلغ ذروته في ظل خطة النهوض الاقتصادي وتولي من هم أهل للثقة مقاليد الحكم في البلاد.
إلى أين من هنا؟!
ومن يأخذه هم التفكير في مستقبل لبنان وشبابه الجديد،خصوصاً وأن غير المتعلمين انصرفوا عن الأعمال اليدوية، تستوي في ذلك الزراعة أو الحرف عموماً، بينما يفيض عدد الجامعيين وأصحاب الاختصاص عن حاجة “سوق العمل”؟!
في كل حفل تخرّج، وفي أي من الجامعات العديدة في لبنان، كان يتصدر الصفوف الأولى عدد من الوزراء (وعديدهم ما شاء الله يكفي لتغطية خمسة وعشرين احتفالاً أو يزيد دفعة واحدة).
وكان بوسع الجمهور الآتي ليمضي لحظة فرح مع أمله في مستقبل أفضل، أن يلمح آثار التعب والاجهاد والنعاس على وجوه السادة الوزراء، بل وأن يضبط بعضهم في حال تلبس بالتثاؤب، (بل أن واحدهم أغفى أكثر من مرة في غير حفل وكاد يقع عن كرسيه لولا شهامة جيرانه)…
والأكيد أن واحداً من هؤلاء لم يكن يفكر في ماذا ستفعل هذه الأفواج من الشباب الخريجين، ولم يشغل باله بمستقبلهم وإلا ضاع عليه موعد حفل العشاء الساهر الذي ينتظره منذ حين لأنه سيجمعه بمن سيعقد معه الصفقة الجديدة.
ما الحل؟!
وقبل، لمن نكتب هذا الكلام؟!
هل نوجهه إلى وزارة التخطيط، أو وزارة التصميم العام، طيب الله ثراها؟!
هل هو موجه إلى حكام المقاولات والالتزامات والصفقات بالتراضي والخلاف على التعيينات، اعتباراً من رئيس دائرة فما فوق؟!
هل هو موجه إلى الشباب أنفسهم لزيادة يأسهم من بلادهم ودولتهز؟!
لعله موجّه إلى الناس، كل الناس، أن يتنادوا فيتلاقوا ويفرضوا مستقبل أبنائهم المؤهلين بنداً أول على جدول أعمالهم هم، ثم على جدول أعمال الحكومة هذه الحكومة وكل حكومة.. فليس الموضوع أمراً عارضاً، ولا هو مؤقت.
إنها معضلة مرشحة للتفاقم، خصوصاً طالما استمرت أبواب الأقطار العربية الغنية مقفلة أمام المؤهلين من عرب الأقطار الفقيرة، ومفتوحة لكل أجنبي، ابتداء بالأميركي وانتهاء بالكوري (الجنوبي) والفيليبيني والسيرلينكي،
استدراك: في البلاد منذ حوالي السنتين وزارة للتعليم العالي،
هل يعرف أحد عنوانها، وشيئاً عما فعلته أو فعلته، وهل تراها معنية بمثل هذه المسألة العارضة والبسيطة والتي يمكن تلخيصها بأن لبنان يخسر مستقبله بعدما خسر حاضره؟!
والسؤال من باب الاستذكار أن “الدولة” قد عملت “واجبها” فأنشأت وزارة للتعليم العالي، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
والخوف أن تبقى الوزارة وأن يندثر التعليم العالي وشبابه المؤهلون.