طلال سلمان

على الطريق حتى لا يُسقط الدولة حكامُها!

أزمة الحكم أخطر من أن يحلها تبديل حكومة، فكيف إذا كان التبديل شكلياً ومحدوداً وذا طابع انتقامي وشخصاني فاقع؟!
لم تكن المشكلة في شخص أو أشخاص ليحلها تبديلهم بمن لا يفضلونهم ولا يمتازون عليهم لا بالعلم ولا بالكفاءة ولا بالعقيدة أو بالرؤيا المنسوجة بأحلام تحولها الإرادة إلى وقائع وحياة جديدة.
أزمة الحكم عضوية وهي تتصل بطبيعته أولاً ثم بشبكة العلاقات بين أطرافه، ثم بنمط نظرته إلى الجمهور ونظرة الجمهور إليه قبل أن نصل إلى علاقاته مع الخارج، عربياً وغير عربي، وبدءاً بسوريا.
إنه حكم انتقالي، هو لهذا – وبداية – كثير العلل وسريع العطب،
إنه يستند إلى صيغة حمالة أوجه وعمومية النصوص بحيث يفسرها كل طرف على هواه وبما يناسب مصالحه، خصوصاً وإنها تمهد لمصالحة أو لتسوية بين مهزومين في حروب خاضوها بكل الوسائل المتاحة، وبأشكال شتى من التحالفات يختلط فيها الحلال بالحرام حتى لتضيع التخوم والقيم جميعاً.
وهو يقوم على توازن هش بين “قوى” متباينة الأفكار والمصالح، “تدخله” لتأخذ منه لا لتعطيه مستبقية “قدراتها” خارجة، فإذا ما اهتز أو تهددت صيغته تنصلت من المسؤولية عنه بسرعة قياسية منتقلة في غمضة عين من موقع المستفيد إلى موقع الجاني فإلى موقع الوارث و”الممثل الشرعي الوحيد للشعب المتضرر”!.
وكثراً ما أدت ممارسة أنماط من مثل هذا الحكم إلى إسقاط الدولة ذاتها. فرأس الحاكم (على اختلاف المواقع) أغلى عليه من دولته بشعبها وأرضها والمؤسسات، في حالات كثيرة.
ونظرة واحدة متأنية إلى خريطة التحالفات (على الأرض) والاشتباكات (في سدة السلطة) كما جسمتها أحداث “انتفاضة الجوع” في الأسبوع الماضي تقدم لوحة سوريالية تتداخل فيها الألوان والمواقف بحيث يصعب الفرز وتحديد من يعارض من، ومن سيقفز من السفينة المهددة بالغرق أولاً!!
لقد وقعت المعركة فيغرفة النوم وبين أطراف الحكم وهم في الثياب الداخلية… مع أنهم رفاق سلاح!! وأبناء صف واحد، نظرياً، أفليس جميعهم من “مواليد الطائف” وممن درجوا على طريق دمشق حتى أتعبوها برمي مسؤولياتهم وموبقاتهم ووشاياتهم وضروب عجزهم عليها؟!
إن خصوم الحكم مرتاحون، لأن “المعارضة” التي تفجرت أمس ويمكن أن تتفجر غداً من داخله فتفجره وتريحهم وتوفر عليهم العناء كما أنها أخبر منهم بمقاتله.
إن أقوى تصريحات ريمون اده المشتط في المعارضة إلى حد العبثية تبدو معتدلة إذا ما قورنت ببعض أقوال وليد جنبلاط، مثلاً، أو ألبير منصور.
واقسى الاتهامات التي وجهها ميشال عون (المسرح والمعفو عنه والمحجور عليه والمنفي والمتاح له أن يتحدث إلى الإذاعات الدولية وأن يبعث بالأشرطة المسجلة إلى كل مكان) الخ. لا “تفضح” شيئاً قياساً إلى ما “كان” يقوله الرؤساء الثلاثة واحدهم في الآخرين، أو إلى ما كان يقوله الوزراء في الرؤساء متفرقين ومجتمعين، إضافة إلى ما يقوله كل منهم عن الآخرين.
لكأنما كان أهل الحكم يتولون هدم الدولة، مؤسسات وكفرة.
كانت الصورة إنه حكم بلا أهل: لا أحد يرى نفسه ملزمامً بالدفاع عنه. فالكل فيه وخارجه والكل ضده حتى يثبت العكس. ونادراً ما يثبت.
إن نبيه بري (الوزير) كان أقسى في نقد الحكم من أمين الجميل، مثلاً، الذي يرى نفسه متضرراً، وسمير جعجع (الوزير؟!) يزايد على جورج حاوي المعلن تضرره، في التشهير بحكم اللا احد القائم، وإجمالاً فالوزراء كانوا أقسى على الحكم عموماً من أولئك النواب الذين يهددون ثم لا يجتمعون لكي يجهروا بمعارضة الحكم أو نقد الحكومة!
الأزمة عميقة جداً، وجذورها تتجاوز الأشخاص وحتى المؤسسات.
فالحكومة لم تكن في أية لحظة حكومة. كانت تجمعاً بلا ضابط ولا مركز بين أشتات من القوى السياسية المهشمة التي تمت لملمتها وحشرت في قاعة واحدة وقيل لها: كوني مجلساً للوزراء، فلم تكن مجلساً ولم يكونوا وزراء… بل إن أكثرية الوزراء تصرفوا وكأنهم رؤساء فوق الرؤساء الرسميين،
أما بدعة “الترويكا” فقد انتهت بكارثة إذ كانت تهز ركائز الحكم كلما كاد يتماسك أو كلما كان مطلوباً تماسكه، فلا هي “مجلس رئاسة” ولا هي “قيادة مشتركة” ولا هي “مؤسسة”، وإنما مجرد ساحة صراع على من هو رئيس الرؤساء جميعاً ولمن حق الأمرة باسم الطائف أو باسم دمشق أو باسم لاشرعية أو باسمها جميعاً.
إن الأزمة أعمق من أن تحلها حكومة جديدة ستحترق حتماً في أتون المشكلات القديمة الباقية بلا حل… لاسيما إذا جاءت الجديدة تكراراً لتجدربة سابقتها الفاشلة
لقد كشفت أحداث “أربعاء الجوع” أن ليس في لبنان كله مرجعية، وليس فيه “كبير” يقول فيسمعه الناس ويصدعون لما يطلبه منهم.
لقد انتهى عصر الزعامات التاريخية والأقطاب والرجال الكبار.
لم يعد من “زعيم” أو “قائد” واحد على مستوى لبنان كله، لا في الحكم ولا خارجه.
ثمة “وجهاء” أو “قيادات” أو “فعاليات” من الدرجة الثالثة تستقطب (بالثمن) ولاء جماعة معينة داخل مذهب معين في منطقة معينة… وقد أسبغ الحكم على هذا النهج “شرعية” مزعومة منكراً على المواطن مواطنيته فارضاً عليه أن يتقبل من الدولة أن تعامله كرعية في مذهب يتبع حكماً لفعالية مذهبية في جهة معينة بالذات.
وبدل أن يكون الحكم “الجبهة الوطنية” العتيدة التي يمكنها أن تقود البلاد في الفترة الانتقالية إلى “الجمهورية الثانية” المنشودة، انشغل الحكم بأطرافه جميعاً في هدم أسس الجمهورية فصار لبنان مشاعاً بلا حدود وبلا وكيل أوقاف شرعي.
وليس عدلاً أن يحاصر اللبنانيون، الآن، بخيار من اثنين: أما موقف وطني يتمسك بالأرض مقابل الجوع والفوضى وتصدع الدولة، وأما انحراف سياسي يغطيه (ويبرره) مطر من المساعدات والقروض والهبات بطلب وبغير طلب، بذريعة تمكين لبنان من استعادة “سيادته” و”التحرر” من الوصاية السورية بحيث يتحول هذا البلد المثخن بالجراح من سند لسوريا إلى عبء عليها ومن متضامن معها إلى متآمر عليها، وبالتالي على حاضره ومستقبله.
وشرط قيام الحكومة الجديدة أن تتجنب المقاتل التي أودت بالحكومة السابقة وكادت تودي بالحكم كله،
شرطها أن تكون انتصاراً لفكرة الدولة على حكامها وليس العكس،
أما إذا انتصروا مرة أخرى فعلى الدولة السلام!

Exit mobile version