طلال سلمان

على الطريق حتى لا يسبح الملوك في الفراغ!

جميل أن تكون لنا لجنة ملكية تهتم بمن تبقى على قيد الحياة منا، في لبنان الممزق الأوصال والغائم مصيره أرضاً وشعباً ومؤسسات!
فأي عز، وأي حظ سعيد لمن يتولى رعايته ملكاً المشرق والمغرب، أولهما خادم الحرمين الشريفين وثانيهما أمير المؤمنين، أما الثالث فوارث أمجاد ثورة المليون شهيد في بلاد الجزائر!!
إن مجرد قبول هذا الثالوث شبه المقدس، بنفوذه المادي العظيم ونفوذه المعنوي غير المحدود، بأن يهتم بمسألتنا العويصة والمعقدة والمتعبة والمتشعبة أطرافها والعوامل، شرف ما بعده شرف، ثم إنه – لا بد – طريق الخلاص.
إن واحداً من هؤلاء الثلاثة يعتبر نفسه مسؤولاً عن حضارة الكون في نهايات القرن العشرين، ومن هنا فهو يضحي بمصالح بلاده وأمته حتى يستمر ركب التقدم الإنساني في مسيرته الظافرة.
والثاني من بينهم ينتدب نفسه لمهمة نبيلة وجليلة عجز عن إتمامها الأولون والآخرون، إلا وهي بناء غد أفضل لهذه المنطقة، وعبرها للعالم أجمع، عن طريق المزاوجة بين العبقرية اليهودية والمال العربي.
أما ثالثاً فهو يقود بلاداً مهابة ومسموعة الكلمة وقد تميزت دبلوماسيتها بإنجاز سلسلة من المهام المستحيلة في أنحاء شتى من الوطن العربي والعالم، بينها “إقناع” المجتمع الدولي بجمهورية ابنتها الصحراء ذات صيف، وبينها التوفيق بين إيران الشاه والإمبراطورية الساسانية وبين حكم الصيف العراقي الداعي إلى الوحدة العربية الشاملة واستعادة عربستان السليب وبناء مجتمع اشتراكي معاد بالضرورة للملكية والإقطاع والاحتكار فكيف بالأباطرة حملة الدم الأزرق؟!
لهؤلاء الثلاثة أعطي مجد لبنان، مجد إنهاء الحرب واستيلاد عصر السلام القائم على تحرير الأرض بإنهاء الاحتلال وتحرير الإنسان بإنهاء عصر الامتيازات والغبن والحرمان والتمييز العنصري الممجوج.
لكن هؤلاء الثلاثة الكبار إنما انتدبوا لرسالة محددة وخولوا “الصلاحيات الشاملة والكاملة لتحقيق الأهداف التي أقرها المؤتمر – القمة – لحل الأزمة اللبنانية وتكون مهمتها على النحو الآتي:
“أ – القيام بالاتصالات والاجراءات التي تراها مناسبة مع جميع الأطراف المعنية بهدف توفير المناخ الملائم لدعوة أعضاء مجلس النواب اللبناني – حتى خارج لبنان عند الضرورة – لإعداد ومناقشة وثيقة الاصلاحات السياسية التي يمكن أن تعتبر أساساً للحوار والوفاق الوطني حتى يقرها مجلس النواب اللبناني في أول اجتماع له.
“ب – دعوة مجلس النواب اللبناني للانعقاد في العاصمة اللبنانية بيروت للتصديق على وثيقة الاصلاحات السياسية.
“ج – بعد التصديق على وثيقة الاصلاحات السياسية ينتخب مجلس النواب رئيس الجمهورية الذي يشكل حكومة وفاق وطني تلتزم بوثيقة الاصلاحات السياسية وتبدأ على الفور في اتخاذ الاجراءات الدستورية لوضع هذه الوثيقة موضع التنفيذ، ويعدل على أساسها، باعتبارها وثيقة دستورية، النظام السياسي اللبناني بما يحقق سيادته الوطنية ويؤكد وحدته وهويته العربية ويرسي مبادئ الحرية والعدالة والمساواة…”
هذا التحديد الدقيق للمهمة، مع بعض التفاصيل، صدر عن أعلى سلطة سياسية عربية (القمة) قبل 52 يوماً بالضبط.
فلماذا ترى اللجنة تبدو اليوم حائرة لا تعرف من أين تبدأ وكيف وبمن وبماذا وتكاد تغرق في بركة ماء تمتد من مرفأ بيروت إلى سلسول جبيل؟!
لماذا تحار اللجنة، ويحار معها الأخضر الإبراهيمي في تحديد وظيفتها هل هي لجنة أمنية، أم هي بعثة تقصي حقائق، أم إنها مجرد لجنة استماع تسجل أقوال الأطراف وتصنفها وتحفظها للاستخدام عندما تحين اللحظة المناسبة.. والله أعلم متى تكون هذه اللحظة؟!
ثم لماذا تتردد هذه اللجنة المباركة في اتخاذ القرارات التي تراها ضرورية للتقدم على طريق أو في اتجاه الحل؟!
من يلجم اللجنة الملكية ويعيق حركتها؟!
من هو صاحب القدرة السحرية على إجبار أبرز قادة العرب وممثلي قمتهم، على المراوحة بل المراوغة، وتجنب المباشرة في فتح الملف السياسي لوضع متفجر عسكرياً ولكن لأسباب سياسية أولاً وأخيراً؟
هل يقوى فرد، بالغاً ما بلغ جبروته ونزعته البونابرتية، على مصادمة قمة يحتشد فيها النابليونات بالعشرات ويهمدر في جنباتها أكثر من بسمارك بينما يتلطى في كواليسها أكثر من مترنيخ وبضعة تلامذة لمكيافيلي يفترضون إنهم قد تجاوزوا أستاذهم وتفوقوا عليه.
وهل تستطيع حكومة لوحدها أن تتصدى لقمة عقدت استثنائياً ولمهمة استثنائية وفي ظرف استثنائي وفي ضيافة ملك استثنائي المواهب والقدرات؟!
ثم، لماذا تبدلت لهجة اللجنة الثلاثية، في قمتها بوهران عن اللهجة الجازمة التي كانت تنضح بها لهجة قرارات قمة الدار البيضاء؟!
لماذا أسقط العامل الإسرائيلي، وغيب تماماً وتم تكبير العامل العراقي، بحيث صورت أزمة لبنان وكأنها مجرد نتيجة منطقية وحتمية لصراع عربي – عربي لا علاقة لأي أعجمي به؟!
هل كانت جولة الوزراء الثلاثة على العواصم الكبرى هي السبب؟!
هل كان إعلان التأييد الدولي (والغربي تحديداً) مشروطاً نكون مع اللجنة الملكية بمقدار ما تتخلى عن مقرراتها في الدار البيضاء؟!
لقد كان ملفتاً، غداة القمة، أن تتلكأ مراكز القرار، بدءاً بواشنطن مروراً بلندن وانتهاء بباريس، في إعلان تأييدها لقمة تحتشد فيها كل تلك النخبة من أصدقائها العرب،
وكان ملفتاً أن تصدر المواقف، بعد التأخر المقصود، باردة وشديدة التحفظ،
أما بعد وهران فقد حسم الأمر، انهالت التأييدات على اللجنة بعد الفصل الكامل بينها وبين قمة الدار البيضاء ومقرراتها اللبنانية!
مع اللجنة ضد المقررات؟!
ولماذا اللجنة إذان؟!
واين تقف اللجنة إذا ما انتفت الغاية من تشكيلها للتعذر؟!
وصحيح إنهم ملوك، ولكن من قال إن الملوك يستطيعون الوقوف في الفراغ أو السباحة فيه؟!
… والفراغ منبت للشر،
وهكذا أنبت الفراغ صاروخاً،
ثم أنبت الصاروخ وضعاً سياسياً صارخاً في جدته. إذ أعلنت إسرائيل وقوفها على الحياد إزاء تزويد الحكم العراقي لميشال عون بصواريخ فروغ، مؤكدة بلسان قائد سلاحها الجوي إن الأمر لا يعنيها!
وإسرائيل بهذا تشجع اللجنة الثلاثية على المضي قدماً في معالجتها الخاطئة للمسألة اللبنانية باعتبارها إحدى نتائج الصراع العربي – العربي على أرض فينيقيا… الجديدة!
وهي معالجة قد تودي باللجنة، وبما علقه الناس عليها من آمال عراض، من دون أن تتقدم بلبنان – وبالعرب – خطوة واحدة على طريق الحل المنشود.
على النقيض من ذلك تماماً فإن فشل اللجنة كارثة محققة، إذ لا شيء بعدها إلا العدم ومشتقاته كمثل التقسيم والقبرصة والبلقنة واتساع مساحة الأرض المحروقة في لبنان وخارجه.
… في انتظارأن تتمكن إسرائيل من التغلب على أزمتها المصيرية بتحويل الانتفاضة المجيدة لشعب فلسطين إلى حرب أهلية جديدة، عربية – عربية.
فهل كان هذا هدف الضغط على اللجنة الثلاثية والتحوير الذي أصاب مهمتها الملكية؟!
وهل يستطيع من غلت يداه أن يسبح.. حتى في الفراغ؟!
إنها أسئلة تنم عن قلق على مهمة اللجنة ومصير اللجنة ذاتها وليس على الياس منها،
وفي انتظار أن يعود الأخضر الإبراهيمي، أو لا يعود، وأن يعود حاملاً إرادة القمة أو يعود مجرد مستمع لآراء المستفيدين بالحرب والعائشين عليها، سيبقى الناس متمسكين ببقايا الأمل في الحل العربي لأنه الحل أولاً والحل الوحيد أولاً وأخيراً.

Exit mobile version