في البدء كانت مصر ومع كل “بداية” نلتفت إلى مصر، ننتظرها ونفتقدها، لأن دور “الأول” حكر لها تجعله الثورة شرفاً وامتيازاً وحقاً بالقيادة نتيجة للريادة، وتحوله الردة إلى خطيئة مميتة تقتل مرتكبها وتمس بكرامة لاأمة وتشوه تاريخها وتغري المارقين والمنحرفين والمتخاذلين بالخروج على إرادتها بذريعة التمثل بالأكبر والأقوى والأقدر على إعطاء القدوة والمثل الصالح.
وبداية مصر كانت بالثورة، ومع 23 يوليو وجمال عبد الناصر جاءت كل تلك البدايات المرتجاة لتحقيق الأحلام والأماني والطموحات العظيمة إلى تحرير الأرض والإنسان وبناء الغد الأفضل بالوحدة والحرية والعدل والتقدم.
لذا فليست مصادفة مطلقة أن تجيء استضافة الحسن الثاني لرئيس حكومة العدو الإسرائيلي شمعون بيريز عشية الذكرى الرابعة والثلاثين لأول توجه عربي جدي نحو أهداف النضال القومي وبالثورة التي بدأت انقلاباً عسكرياً ثم تجاوزت ذاتها بالانحياز إلى جماهير شعبها وأمتها والانخراط في الصراع المفتوح مع كل القوى المعادية في الداخل والخارج.
فلقاء “ايفران” نموذجي، في هذا المجال، لأنه يجمع بين العدو الإسرائيلي صليبي العصر الحديث الآتي بقوة الغرب وسلاحه لاحتلال الأرض العربية وقهر الإرادة العربية، وبين الجالس على أعرق عرش عربي الحاكم بقوة “النسب الشريف” معززة بالدعم الغربي المتزايد بقدر ما يثبت هذا العاهل المؤهل والعصري من كفاءة في قهر شعبه وإجباره على تغيير مسارة وتوجهاته حتى ليكاد ينكر نفسه وتاريخه.
الإسرائيلي والعرش والفقر المذل وسياسة التجويع والتهجين، وبرعاية الولايات المتحدة ومباركة سائر الغرب ومعظم الحكام العرب، من صمت منهم راضياً ومن اعترض على الشكل، ومن نفى علمه المسبق بالزيارة دون أن يحدد منها موقفاً، كل هؤلاء اجتمعوا على شعب المغرب، كما اجتمعوا من قبل على شعب مصر، فإذا العرب جميعاً أمام فصل جديد من الكارثة القومية التي تهددنا جميعاً في وجودنا ذاته.
فإذا كانت “الزيارة” الأولى، مسبوقة بالتمهيدات المعروفة، قد حولت الخلاف على “الحدود” أو على حقوق “السيادة” إلى حروب عربية – عربية في المغرب والمشرق، فإن “الزيارة” الثانية مرشحة لأن تسرّع عملية تفتيت كل قطر عربي إلى مجموعة من الطوائف والمذاهب والعناصر والأثنيات بحيث تبقى إسرائيل الدولة الوحيدة فوق أرض الوطن العربي أو في “منطقة الشرق الأوسط” كما يراد لنا أن نسمى!
… إذن فأمير المؤمنين، ملك المملكة الشريفية، سليل الأسرة العلوية، هو “الثاني” المنشود، وليس الملك حسين الذي يخاف التجربة ويغري بها غيره ولا هو أمين بيار الجميل (أو حتى بشير) الذي اندفع ثم استمهل ليكون “الثالث” أو “الرابع”، قبل أن يضطر إلى التراجع تحت ضغط الرفض الشعبي في الداخل ورفض من تبقى من القائلين بالصمود، عربياً، وسورياً على وجه التحديد، ولا هو أخيراً ياسر عرفات المرفوض لقوة الرمز فيه والمصر على الاستمرار في المحالة اليائسة لأن يقبل ولو ضمن طرف آخر وبثمن قد يذهب بالقضية المقدسة بعد الأرض المقدسة.
وصحيح إن الحسن الثاني يظل “بدلاً عن ضائع” أكثر منه طرفاً أصيلاً، وإن السؤال عن “الثالث” يصير أقل إلحاحاً، حتى إشعار آخر، وفي انتظار أن تنضج الظروف لهجمة أخرى تسمح لساداتي آخر بالانضمام إلى موكب القائلين والقابلين بالسلام الإسرائيلي.
لكن الصحيح أيضاً إنه لا ينفع في شيء أن نهون من خطورة الأمر الجلل الذي أقدم عليه ملك المغرب، مستذكرين – مثلاً – بعده عن ساحة الصراع الأصلي وتاريخه في التبرع السخي بالحقوق العربية للإسرائيلي كما للأميركي وللفرنسي ، حسب مقتضيات الحال.
فإذا قدر للحسن الثاني أن يكمل مسيرته فيخرج المغرب من دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي، مستفيداً ومتكئاً على تجربة إخراج مصر، فإن محنة الأمة ستكون قاسية في الزمن الآتي وسيحكم بالإعدام على جيل أو جيلين قادمين في أربع رياح الأرض العربية، إذ سيجد أبناؤنا أنفسهم بلا قضية، بلا هوية، ومغرقين في سلسلة حروب أهلية لا تبقى لهم منا ومن علاقتهم بالوطن والأمة إلا الذكريات الكريهة.
وعلينا أن نواجه أنفسنا بصراحة وبقسوة، فأي معنى يبقى للقول بأن إسرائيل هي العدو القومي بينما نصف العرب (أكثر من ثمانين مليوناً في الدولتين العربيتين الأكثر شرعية، مصر والمغرب)، يصالحون هذا العدو ويقيمون معه علاقات طبيعية.
كيف، إذن يبقى العدو عدواً، ولمن يتوجه المواطن بشعور العداء، لأخيه أم لنفسه أم لتاريخه أم لمستقبله، أم ينتحر بمعاداة العالم كله؟!
على إننا يجب ألا نضيع السياق أو نتوه عنه حتى لا نفقد القدرة على الرؤية وعلى الإمساك بحلم الغد الأفضل،
فهذه الزيارة كسابقتها تمت بعد تمهيدات محددة سمحت بها، وستليها إجراءات تسمح بنتائجها المطلوبة…
وبين التمهيدات هذا الانعطاف السعودي المؤثر في اتجاه مصر حسني مبارك، وقد تمثل بموقف رسمي معلن أكثر مما تمثل بهبة القمح الملكية.
وبينها أيضاً “الانقلاب” الذي دبر بليل في الكويت وانتهى بضرب تجربتها الوليدة في الديموقراطية وتمثل بحل مجلس الأمة وكتم أنفاس الصحافة فيها، وهي كانت رنة إضافية للعرب مع صحافة لبنان المهيضة الجناح الآن.
وبينها أيضاً وأيضاً “الانقلاب” الذي دبر نهاراً في تونس ليلغي أية قيمة باقية وأي دور محتمل لجامعة الدول العربية وليهيئ لقيادة منظمة التحرير أن توسع خطواتها على طريق التنازلات معتذرة بالوضع العربي في هذا الزمن الرديء!!
وبينها أيضاً وأيضاً “حرب المخيمات” في بيروت، وهي المرشحة لأن تجدد في أي يوم طالما ظل ممكناً توظيفها في تبرير الانحراف القومي وتسعير الحرب الأهلية التي تخرج قسماً كبيراً من العرب من دائرة الصراع الأصلي لتحصرهم وتحاصرهم في مستنقعات الطائفية والمذهبية والكيانية القاتلة.
وبينها فسخ الشراكة بين الملك حسين وياسر عرفات بعدما انتفت حاجة الملك ومن معه إليها،
هذا من غير أن ننسى بعض المحطات ذات الدلالة ومنها:
*الصمت المريب لمنظمة التحرير الفلسطينية عن مجمل التصرفات التي صدرت على امتداد السنوات الماضية عن الحسن الثاني والتي تجعل خطوته الجديدة تتمة منطقية وليست تطوراً نوعياً مفاجئاً أو مباغتاً وخارجاً على السياق.
*الحملة الشعواء التي شنها حسني مبارك، بعد صمت، على سوريا ودورها في لبنان، مع تركيز مريب على الملامح المتبقية للديموقراطية في الوطن العربي، وبالذات في الكويت وبيروت.
*التهديدات الأميركية للمنطقة العربية برمتها، وعلى المستويات كافة، تحت بند الإرهاب، وأيضاً في مجال النفط سعراً وكمية إنتاج، والتي بلغت ذروتها بالغارة على ليبيا ومحاولة اغتيال العقيد معمر القذافي في بيته، ليكون عبرة لمن يعترض على القدر الأميركي،
كل هذا يدعو إلى التفكير جدياً بالرد الأنسب ليس فقط على زيارة بيريز للمغرب، والتي يصفها بعض أنصاره وبعض معارضيه أيضاً، بأنها مهمة بذاتها وليس بنتائجها، وإنها ضمنت له فوزاً انتخابياً ساحقاً يحرره من الشراكة مع الليكود، بل أساساً على النهج العربي الرسمي المعتمد والذي يسمح بزيارة “الأول” ثم بزيارة “الثاني” واستطراداً بالزيارات الأخرى المحتملة.
فالحسن الثاني طلب تفويض عرب قمة فاس، وسواء أكان فوض نفسه مستفيداً من صمتهم، أم نال تفويضهم فعلاً فإنهم شركاؤه في المسؤولية سواء بسواء.
ولقد يتأخر الرد المطلوب والحاسم، في المغرب ذاته أو في مصر المفتقدة والمنتظرة دائماً، مصر الثورة والوحدة والكرامة والتحرير.
وفي انتظار مثل ذلك الرد فلا أقل من أن نمنع سريان المرض الفتاك إلى أنحاء أخرى في الجسم العربي، مستذكرين أن عقوبة الحد الأدنى التي وقعت على السادات أغرته وأغرت غيره بالايغال في الخيانة حتى نهايتها المنطقية.
وأبسط الواجبات هو ألا تتكرر الغلطة فيعاقب المغرب ويمكن لملكه فيه، وهذا إلى حد كبير ما وقع مع مصر وهو ما يزال مستمراً ومعتمداً حتى اليوم.
.. وهذا ما اخر ويؤخر الثورة المرتجاة في مصر وفي سائر الأقطار العربية،
وأول الثورة ومدخلها القتال على أرض فلسطين وعلى كل أرض يحتلها العدو الإسرائيلي،
وفي انتظار ذلك اليوم فلنقاتل “الثالث” طالما عجزنا عن منع “الثاني” الذي لم يتعظ بمصير “الأول” على طريق الموت الإسرائيلي… برغم قوة “المناخ” الذي تهددنا واشنطن بأن يسود علينا جميعاً!