لا خوف من تضليل الأخضر الإبراهيمي ولا خطر عليه من لاضياع بحيث يفقد القدرة على التمييز بين الأساس والفرع، بين السبب والنتيجة، بين ما هو تكتيكي وللمناورة فحسب وبين ما هو استراتيجي يتصل بالثوابت.
فالأخضر الإبراهيمي كادر سياسي على درجة عالية من الثقافة والمعرفة والخبرة، ثم إنه أحد المشارقة القلائل بين الجزائريين،
وهو يدرك، بتجربة بلاده وثورتها العظيمة، ثم بوعيه الشخصي المستند إلى التجارب والدروس المستفادة، إن مهمته “تمهيدية” و”أولية” لكنها ذات تأثير خطير على كيفية تناول المسألة اللبنانية عربياً، انطلاقاً من تشخيص الداء إلى وصف العلاج الشافي وطريقة إعداده والجرعات ومواعيدها تحاشياً للمضاعفات القاتلة،
برغم هذا كله، أو بسبب من هذا كله، قد يكون مفيداً للجامعة العربية، ممثلة بالأخضر الإبراهيمي، وللجنتها السداسية، أن تأخذ بالاعتبار جملة من الملاحظات الأساسية، الآن وقد خطت خطوتها الأولى على أرض الأزمة اللبنانية التي كثيراً ما وصفت بـ “الرمال المتحركة”، ومنها:
1 – إن اللبنانيين الذين يتبارون الآن في الترحيب بالجامعة ومهمة بعثتها ولجنتها السداسية، يأخذون عليها أمرين:
*الأول – التأخير، فلقد طال انتظارهم لمبادرة عربية ما واستطال حتى استحال إلى يأس وإلى خيبة أمل مريرة، والأخطر إن التأثير تسبب في تفاقم أزمتهم (الخطيرة أصلاً) بحيث صار علاجها أدق والأمل بالإنقاذ أضعف.
*الثاني – التداخل، بمعنى إنهم لا يرون في تحرك الجامعة (المتأخر) مبادرة عربية خالصة، بل هي “بدل عن ضائع” أو تعويض عن عجز دولي (أميركي أساساً) أو تلبية لطلب دولي صريح بإشغال الوقت الضائع ريثما يتسع وقت “الكبار” للنظر في مسألتنا المزمنة والمعقدة والمتشابكة مع “أزمة المنطقة” والمتعبة في كل الحالات.
لكأنما الأخضر الإبراهيمي ومعه الجاسم يمثلان الآن اللجنة السداسية الممثلة للجامعة العربية الممثلة للأمم المتحدة التي دفعت لأن تتحرك نيابة عن الولايات المتحدة الأميركية المشغولة بعد في تركيز إدارتها الجديدة، والمنصرفة باهتمامها إلى الهم الإسرائيلي وبالتالي إلى تصفية الموضوع الفلسطيني،
ولولا شيء من البصيرة وبقايا العزة القومية لرأى الناس في بعثة الجامعة العربية لجنة دولية لتقصي الحقائق، انطلاقاً من احترام الأمر الواقع القائم والتعامل معه ومع قواه الفاعلة لأن اللجنة إنما جاءت للتنفيذ وليس للتقرير!!
2 – إن اللبنانيين الذين يخافون، أكثر ما يخافون، من تكريس الأمر الواقع القائم، يرغبهم التفكير بأن تتحول الجامعة، العاجزة عن المبادرة وعن نقض ما هو قائم، إلى مظلة تضفي نوعاً من الشرعية العربية والدولية على الواقع التقسيمي القائم.
لقد تحاشى الأخضر الإبراهيمي في تصريحاته، أمس، أن يمنح لقب “الرئيس” لأي من “الرسميين” الذين التقاهم، فتحدث عن سليم الحص بوصفه “الأخ الدكتور” وعن ميشال عون بوصفة “سيادة العماد”،
لكن هذا التحاشي لا يقضي على التخوف من نتائج الإقرار بواقع “الحكومتين”،
فـ “الحكومتان” أمر واقع قائم، لكن التعامل الواقعي معهما وكأنهما حقيقتان سياسيتان ثابتتان خطأ سياسي قاتل بتأثيره على مستقبل لبنان،
خصوصاً إذا ما صدر عن جامعة الدول العربية، التي تحفظ للبنان موقع الدولة – المؤسسة،
… وخصوصاً إذا ما كانت مهمة الجامعة العربية مثقلة بكل هذا الدعم الدولي المريب.
3 – تتصل بذلك مباشرة مشروعية التساؤل عن مهمة المراقبين العرب، الآتين من حيث المبدأ ، متى أتوا، لمراقبة وقف إطلاق النار.
بالمصادفة (!!) إن خطوط وقف إطلاق النار هي ذاتها حدود “الكانتون”، كأمر واقع، وحدود ومشروع التقسيم تحت لافتة الفيدرالية أو ما شابه من أفكار تقسيمية منطلقها بالأصل طائفي،
فهل سيأتي المراقبون العرب لتثبيت حدود الكانتون؟!
هل ستكون جامعة الدول العربية حرس حدود للتقسيم الواقعي، في انتظار أن ترى “الدول” عبر واشنطن ما يناسب مصلحة الأمن الإسرائيلي من الأراضي العربية، في لبنان وخارجه؟!
4 – إن “المهمة الأمنية” هي التمهيد العملي وعلى لاأرض للمهمة السياسية الشائكة التي أكدت الجامعة إنها ستتصدى لها لاحقاً (!!) بعد مؤتمر القمة العربي، ربما؟! بعد تمرير المشروع الإسرائيلي لوأد الانتفاضة وتحويلها إلى حرب أهلية فلسطينية، ربما؟! بعد ارتياح الإدارة الأميركية إلى تعميم منطق كامب ديفيد بعد تحويله إلى صلح جماعي مع العرب، ربما…
لكن النجاح المطلق للمهمة الأمنية، إذا ما التزمت بمنظور سياسي محدد قد ينتهي بكارثة وطنية في لبنان، وكارثة قومية على المستوى العربي…
والسؤال الملح: ماذا بعد الأمن؟؟ لماذا الهدنة؟!
لا يعتقد أحد من عارفي الأخضر الإبراهيمي إنه من السذاجة بحيث يصدق إن “حرب العماد” كانت بسبب رغبته في تطبيق القوانين وبسط سلطة الدولة وإقفال المرافئ غير الشرعية،
حتى العماد عون قالها بلسانه ثم بلسان أمير دبلوماسيته الأريب فاروق أبي اللمع: ليست قصة مرافئ، حكاية المرافئ تفصيل وقصة بسيطة!!
ما القصة إذن؟!
البعض يقول: هي قصة الاصلاح السياسي، فلمنعه كانت الحرب،
والبعض الآخر يقول: بل هي حرب الانتخابات الرئاسية، فالعماد يريدها لنفسه أو يمنع إجراءها ولو بالقوة، وطالما منعها استمر رئيساً، إذن فلتذهب الانتخابات إلى حيث ألقت!
على إن ثمة من يرى للأمر كله بعداً أخطر فيعتبرها “حرب الفيدرالية”، وإن العماد شن حربه لتكون – بنتائجها – عذره مستقبلاً: لقد جربنا الوحدة معكم، ودعوناكم إليها تحت مظلة الشرعية فرفضتموها، إذن فاضهبوا إلى حال سبيلكم ودعونا ندير شؤوننا في أرضنا المحررة كما نشتهي،
أي إن العماد خطف الراية والشعار من “القوات اللبنانية” ثم خطف منها الأرض وما عليها من مرافق ومرافئ، بما في ذلك المطار الوهمي في “حالات حتفاً”.
وللمناسبة على أرض “حالات” بقي جثمان الشهيد رشيد كرامي، أحد أبرز رموز الوحدة الوطنية والدولة اللبنانية، مسجى بلا غطاء، لساعات، حتى تكرم “المحررون” عليه بسيارة إسعاف نقلته إلى مسقط رأسه طرابلس لكي يدفن ومعه أحلامه في استعادة الوحدة وجمهوريتها والحد الأدنى من حقوق الإنسان.
… وها هو العماد عون الذي عجز عن حماية رئيس حكومته، رشيد كرامي، حياً، وعن حماية جثمانه شهيداً، وعن الثأر لدمه المسفوح، وعن إثبات براءة نفسه وجيشه بالقبض على الجاني أو الشريك أو المتواطئ أو المتستر أو مسهل التنفيذ… ها هو يطلب من الجامعة العربية تشريع ما هو غير شرعي، و”يسرق” من “القوات اللبنانية” المطار الوهمي في حالات المشبع بدماء رشيد كرامي، بينما هو يحاول تأكيد وحدويته، وطنياً، ووحدانيته في تجسيد السلطة الشرعية!
ما علينا، لنعد إلى موضوعنا،
إن اللبنانيين جميعاً يتفهمون حالة العجز العربي المريع عن مواجهة أبسط الشؤون والمشكلات والخلافات الطارئة ناهيك بالمزمنة والمستعصية،
وهم لا يحملون ولا يطلبون من جامعة الدول العربية، وهي محصلة للواقع السياسي العربي القائم وحاضنة للعجز القومي العام، فوق ما تطيق.
لكن من حقهم أن يطلبوا منها أموراً ثلاثة.
أولاً – ألا تكون شاهد زور ، ترى فتدعي إنها لم تر أو تزور حقيقة ما تراه،
ثانياً – ألا تكون حرس حدود أو ستارة لمشروع تقسيمي لن يتوقف خطره المدمر عند حدود لبنان بل ستمتد ناره إلى كل أرض عربية بين المحيط والخليج،
ثالثاً – ألا تكون وكيلاً مأجوراً لمصالح أجنبية، ترعى تنفيذ ما يريده الأميركيون (وإسرائيل ضمنهم) تحت علمها الأخضر ذي السنبلتين أو غصني الزيتون المتعاقدين والمرتكزين إلى الآية الكريمة “واعتصموا بحبل الله جميعأً ولا تفرقوا”!
لقد طلب اللبنانيون الحل العربي، وانتظروه وسيظلون يطلبونه بوصفه سنداً لوحدتهم وضماناً لحرياتهم ولحقوقهم في وطنهم الواحد الموحد.
لم يطلبوا جنداً لكي يموتوا نيابة عنهم، أو حتى معهم،
بل طلبوا من العرب سبباً للحياة، حياتهم في لبنان وحياتهم في سائر أنحاء الأرض العربية.
… وهم يفترضون إن الأخضر الإبراهيمي إنما جاء لمثل هذه المهمة، وليس لاختيار مواقع الحرس العربي، على حدود الكانتون.. الذي لن يكون عربياً، ولا لبنانياً، بأي حال،
هذا إذا سمح له بأن يقوم، ولن يسمح…
أليس كذلك يا مستر سمبسون؟!