برغم “الاحتفال” بدخول الحرب في لبنان سنتها السابعة، فما زلنا نسمع من بعض الحكام العرب، أو الناطقين باسمهم، تساؤلات ساذجة وبريئة جداً من نوع:
“- وكيف، وبماذا تريدوننا أن نساعد في إنهاء مأساتكم، أيها الأخوان؟! إن جرح لبنان يدمي أفئدتنا، ولقد حاولنا وبذلنا ما نستطيع من جهد، ولم نبخل بأي شيء.. لكن الأوضاع في بلدكم الصغير معقدة ومتشابكة، بحيث تتعذر الرؤية بوضوح، وتعدد الأطراف والمصالح والتناقضات السياسية والاجتماعية، الطائفية والفكرية، المحلية والعربية والعربية والخارجية، كل هذا يحد من قدرتنا على تقديم ما هو مفيد ومؤثر في وقف النزف المخيف في لبنان الجميل والعزيز على قلوبنا”.
وثمة بين هؤلاء من هو أكثر فصاحة، وأدق معرفة “بحقائق الأمور” بحيث يقول بلهجة من اكتشف البارود:
“- بصراحة – الحق عليكم يا أخوان.. لقد حيرتمونا وأعجزتمونا! وماذا بوسعنا أن نفعل إذا كنتم أنتم لا تشفقون على بلادكم ولا على أنفسهم؟! إنكم تنحرون بلدكم وتنتحرون بكفاءة قل نظيرها.
“… إنكم، وبصراحة متناهية تطلبون من الغير ما هو مطلوب منكم! إنكم تهدمون بلادكم وتطلبون منا، ومن غيرنا، إعادة بنائها. إنكم تقيمون علاقات مع أطراف خارجية، وتبيعون لها ولاءكم… ماذا دهاكم، تدمرون بلادكم لحساب الغير ثم تلوموننا نحن على التقصير؟! إذا كنا نحن بين المقصرين، فلسنا ندري بماذا يمكن أن توصفوا أنتم”!!
فإذا دار الحديث حول الوقائع ومجريات الأمور وطبيعة العلاقات السياسية القائمة بين هؤلاء السادة النجب وحزب الكتائب مثلاً ودورهم – هم بالذات في تعزيز قدرات الشيخ بشير الجميل وميليشياته، المادية والسياسية، لم يتلجلجوا ولم يتلعثموا، بل ردوا بسرعة ورائحة النفط تعبق فتملأ عليك المكان.
-نحن حريصون على علاقاتنا مع الأطراف جميعاً، لأننا نعتبر أن ذلك يفيد القضية. إننا مسؤولون، وككل مسؤول لا يجوز لنا أن نتحيز أو ننحاز، فالكل بالنسبة لنا سواء، ونحن مطالبون بإبقاء الخطوط مفتوحة مع الجميع للمساعدة على حل المعضلة، وكيف نحلها إذا كنا خصماً أو طرفاً في النزاع؟!
فإذا قلت إنك ليست ضد المبدأ وكذلك تريدهم أن يوظفوا علاقاتهم مع الجميع في سبيل خير الجميع، وقبل ذلك: في سبيل بقاء البلد وضمان وحدته وخير شعبه، ردوا بلهجة تنضح بالمئة.
“- لقد أوفدنا وزراء منا ورسلاً مكلفين بمهمات دقيقة، وتعرض رجالنا للخطر وهم ينتقلون بين خطوط النار ليوافوا القيادات الحزبية برأينا، أو ليسمعوا منهم، وبالطبع فإننا لم نوظف جهودنا هذه للدعاية لأنفسنا، ولن نعلن عن معظم اتصالاتنا.
“… أما عن حزب الكتائب فلا أحد ينكر، حتى أنتم، إنه قوة سياسية وذات وزن كبير في الشأن اللبناني، ولا يمكننا تجاهل هذه الحقيقة أو التعاطي مع الكتائب بمنطق الخصم!
“… والأمانة تقتضينا أن نشهد للشيخ بيار الجميل بالطيبة والحكمة قد يكون مخطئاً، ولكنه في تقديرنا – لا يقصد إلا تحقيق الخير لبلاده، وما يقوله وما يعلنه هو ما يؤمن به فعلاً، إنه صريح ومباشر، ولا شك أنه جريء، وهذه المواصفات مجتمعة تجعله أفضل من أولئك الذين يقولون شيئاً ويضمون شيئاً.
“… نعرف إنكم تتهمونه بالطائفية، وترفعون رايات الوطنية وشعاراتها، فهل تريدون منا نحن – إذن – أن نكون الطائفيين؟!
“إننا قوميون، في البداية والنهاية، إننا عرب، وهؤلاء المنتمون إلى حزب الكتائب، ومهما بلغت درجة خلافنا معهم، هم أيضاً عرب وإن أنكروا ذلك… فهل تريدوننا أن نشن عليهم حرباً دينية؟! أليس الإسلام دين التسامح والرأفة وتقديم الخير العام، خير الإنسان، على كل ما عداه”
مثل هذه الأقوال والحجج تسمعها بشكل خاص من حكام الجزيرة العربية والخليج وهي بمجملها كلمات حق أريد بها باطل، وهي الغطاء الشكلي الرقيق الذي يستخدم في محاولة حجب حقيقة العلاقة العضوية القائمة بين هؤلاء وأمثالهم وبين الكتائب انطلاقاً من نظرتهم إلى ميليشيات بشير الجميل على أنها “حزب اليمين العربي”… وهم لا يخفون ارتياحهم إلى كون هذا الحزب قوياً بسلاح الكتائب وبالأيديولوجية الانعزالية التي يبذرها في لبنان فتنبت في أقطار عربية عديدة، تأتي في الطليعة منها الأقطار النفطية.
ومن الضروري مناقشة هذه الحجج والرد عليها وإسقاطها، وإلزام القائلين بها من حكام النفط والمنتفعين بمآسي الأمة، في هذه الأيام بالذات، إذا كنا حريصين فعلاً على توفير فرصة للحل السياسي العتيد للمسألة اللبنانية.
من الضروري ضرب هذا الحلف المشبوه القائم بين قوى التخلف والردة في الوطن العربي وبين المؤسسة الطائفية العنصرية الفاشية الكبرى في لبنان والتي يحمل رايتها الآن حزب الكتائب في لبنان.
وإذا كان من مفارقات القدر أن يتم مثل هذا التلاقي “العلماني” بين مؤسستين طائفيتين، على قاعدة من العداء لروح التغيير وللعروبة بما هي إرادة ثورة وإرادة وحدة وإرادة تقدم نحن الغد الأفضل في لبنان وسائر الأقطار العربية، فإن واجب القوى الوطنية والقومية أن تضرب هناك إذا أرادت أن تحقق نجاحاً هنا.
ولنتصور، مثلاً، وعلى سبيل التوهم أو الحلم، أن الحكم في قطر خليجي ما قد استلهم ربه أو قوميته أو ضميره (وكل ذلك على سبيل التصور) ثم قرر أن يسدي خدمة إلى أمته وإلى أخوانه في لبنان خاصة فاستدعى بعض من يعرف من ممثلي حزب الكتائب عنده وطلب منه أن ينقل إلى مشايخ حزبه الرسالة الآتي نصها:
“قرروا، ولمرة واحدة، هل تريدون أن تكونوا معنا ومنا أم مع إسرائيل ومنها، وأفيدونا، فإن اخترتمونا فأنتم أهلنا ولكم علينا حقوق الأهل، وإن اخترتم إسرائيل لقيتم منا معاملة العدو… وقد أعذر من أنذار”.
لنتصور جدلاً أن مثل هذا الاستدعاء قد حصل، وإن مثل هذه الرسالة قد وجهت فعلاً، فماذا يمكن أن يحدث؟!
في أبسط التقديرات، ستتوقف الحرب في لبنان وسينغلق الجرح، على شفاء، ولن يظل الدم يهدر جزافاً، ومعه دموع الأشقاء من حكام النفط.
فإذا كانت ميلشيات الكتائب تستقوي علينا بالسلاح الإسرائيلي فإنها إنما صمدت وبقيت حتى اليوم بفضل موقف الحكام العرب المتعاطفين معها ضمناً، إن لم يكن بفضل مساعداتهم المباشرة.
إن إسرائيل تقدم لهذه الميليشيات بعض السلاح وخبراء القتل، لكن هؤلاء الحكام يوفرون لها – مباشرة أو عبر مجاميع من قياديي حزب الكتائب ومموليه – مساعدات مالية هائلة وأهم منها يقدمون التغطية السياسية الضرورية لإسباغ “مشروعية” عربية معينة على هذا الحزب الطائفي العنصري المعادي للعرب والعروبة.
إن ميليشيات الكتائب تضربنا بذراعين أحدهما عربي، والآخر إسرائيلي، والذراع العربي هو الأقوى والأقدر على إلحاق الأذى.
وبين شروط توفير الحل السياسي للمسألة اللبنانية أن يشكل هذا الزراع الذي يكمل – موضوعياً – مهمة الذراع الإسرائيلي.
وليس مقبولاً أو معقولاً أن نسمع من عرب النفط نشيجاً ونحيباً وعويلاً كالذي سمعناه في رثائهم لزحلة (التي ما زالت ولله الحمد بخير)، خلال الأيام القليلة الماضية، بينما لم نسمع منهم حرفاً عن الجنوب وأهل الجنوب الذين تتحالف إسرائيل، مع ميليشيات شقيقة للميليشيات الكتائبية من أجل إبادتهم وإحراق أرضهم بحيث تغدو ممهدة لاحتلال العدو في أية لحظة.
إن المشروع واحد سياسياً،
إنه مشروع صهينة لبنان،
وليس مقبولاً ولا معقولاً أن نظل صامتين على المساهمة الجدية التي يقدمها بعض الحكام العرب وفي الطليعة منهم بعض النفطيين لهذا المشروع عبر دعمهم السياسي والمادي لأدواته المحلية.
لصمود الجنوب البرقيات والعواطف والأناشيد، وللكتائب المال (مباشرة أو عبر صفقات الالتزامات الضخمة التي تعطى لأشخاص مختارين ومن ضمن منطق سياسي محدد) والسلاح (أحياناً)، والتزكية السياسية من مدخل “العداء المشترك للشيوعية الدولية والاتحاد السوفياتي”.
إنه ليس مجازياً بأي حال، أن تطلق على هؤلاء تسمية “كتائب العرب”، ولكن المطلوب أن نخيرهم، هم أيضاً بين أمرين: أن يكونوا عرباً أو أن يكونوا كتائب.
والمطلوب أن نحدد، نحن، موقفنا منهم، خصوصاً وإنهم قد حددوا هم موقفهم منا.
وقد لا نستطيع أن نغير موقفهم بإعلان موقفنا، ولكن إعلان الموقف يبدو ضرورياً في سعينا من أجل توفير القاعدة اللازمة للحل السياسي الوطني في لبنان،
إننا نستطيع، مثلاً، أن نحرمهم من ادعاء شرف المشاركة في صنع مثل هذا الحل، ونكشف إنهم بين ا لمسؤولين عن المأساة ذاتها.
إننا لا نريد أموالهم ولا نريد عواطفهم الرخيصة، ولكننا نملك أن نشهر في وجوههم السلاح الذي يخافونه حقاً، إعلان الحقيقة وإسقاط البراقع التي يتسترون بها فيبدون في نظر الناس “معتدلين” و”طيبين” ومن سعاة الخير!!
ولنتذكر، لعل الذكرى تنفع المؤمنين، إن بعض هؤلاء العرب هم طرف مقرر في الانتخابات الرئاسية الفرنسية (حتى لا نقول الأميركية) بوصفهم ممولي المرشحين الأساسيين فيها.
ولنتأمل نتائج دورهم في التأثير على الموقف الفرنسي من لبنان، على أن هذا كله لن يخرجنا من قوميتنا، ولن يجعلنا نهاجر إلى الإقليمية والطائفية العنصرية.
سنبقى عرباً، وسنفضح الجميع، في الداخل والخارج، بقدر ما نبقى عرباً.