ليس أعز على قلب المواطن في لبنان، الآن من وقف إطلاق النار، إنه “الوقف”، في مرتبة وسط بين الأمنية وبين الحلم، إنه “المفتدى” بكل غال ونفيس، بالمال، بالروح، بالدم، الخ.. ولا فضل في هذا ولا جميل، فالنار التهمت وتلتهم كل ذلك وأكثر: إنها تلتهم المستقبل أيضاً.
وموقف المواطن اللبناني من وقف النار طبيعي ومفهوم ومنطقي ومبرر الخ،
على إن الملفت هو هذا الإجماع الدولي النادر المثال، والذي يكاد يشكل سابقة في السياسة الدولية على ضرورة وقف إطلاق النار في لبنان فوراً وبلا تأخير!
كل الدنيا، بشرقها وغربها، بالشمال والجنوب، والوسط ، تريد وتطلب وتتمنى وترجو وتنادي بـ وتعمل من أجل وتدعو بحزم إلى وقف إطلاق النار في لبنان.
وقف إطلاق النار وبس!
وقف إطلاق النار ولو لفترة محددة ومحدودة، ولو لثلاثة أشهر، كما قال وزراء الخارجية العرب؟!
يلتقي وزيرا خارجيتي الدولتين العظميين فلا يجد إن ما يعلنان اتفاقهما حوله إلا ضرورة وقف إطلاق النار في لبنان،
وبعد الاتفاق يحولان الأمر إلى الجامعة العربية بوصفها “المراقب” المكلف – دولياً – بمنع إطلاق النار والإشراف على ضبط المخالفات وتسجيلها. وإن تعذر ضبط المخالف أو المخالفين، ناهيك بإزالة الأسباب ومسببي إطلاق النار والمنتفعين من إطلاقها.
وهما يصدران بذلك إعلاناً هو الأول من نوعه وقد يكون بداية لتحول تاريخي أو لتحول في تاريخ المنطقة وربما في جغرافيتها أيضاً.. ولكن تشوقنا إلى وقف النار لا يسمح لنا بالتوقف للقراءة المتأنية لهذه السطور القليلة التي قد تتحول إلى مجلدات في مكتبات المستقبل وأرشيف الدول العظمى المحفوظة بعناية حتى لا يعرف “الصغار” عن ماضيهم وحاضرهم ما قد ينفع أجيالهم الآتية.
قبل الدولتين العظميين وبعدهما تستمر فرنسا في محاولة فرض وقف لإطلاق النار في لبنان ولو بإطلاق النار على اللبنانيين والسوريين (والإيرانيين أيضاً).. ويأتي موفودها الرسميون فيوفرون للنار وقوداً جديدة، ثم تاتي زوجات الموفدين لتطبع قبلات الوفاء والتقدير على خد بطل إطلاق النار ومحرر البيوت من أصحابها وقاطنيهان سواء أكانوا شيوخاً أم نساء أم أطفالاً لا يطمعون في أكثر من حضن دافئ وبعض الحليب أو الخبز اليابس!
… وأخيراً تقصفنا فرنسا بواحد من أحفاد أباطرتها السابقين، وعشية الذكرى المائتي لثورتها عليهم وخلعهم تحقيقاً للوحدة والاخاء والمساواة، ليعلمنا الوطنية وحب الأرض والإيمان بالإنسان، فيمنحه بطل إطلاق النار “الشجاع” جواز سفر لبنانياً لا تقبله دولته ولا تعطي حامله تأشيرة دخول!
تصوروا! حفيد لويس الثالث عشر ولويس الرابع عشر وسائر “اللويسات” الذين خلعتهم الثورة التي صادرها بالنتيجة نابليون، يتجشم المشاق ووعثاء السفر ليأتي فينحني أمام مسخ نابليون اللبناني القابع في الملجأ الجمهوري ببعبدا، متشرفاً بمصافحة يمناه، معتزاً بأنه وجد أخيراً من يستقبل لقبه المندثر وتاريخه الأسود في البلاد التي بين أسباب مأساتها علاقة أجداده الخاصة جداً بها!!
ما علينا… لنعد إلى وقف النار كمطلب دولي ملح، وكرجاء عربي يصل إلى حد التسول…
لماذا هذا الإصرار على وقف النار في لبنان مع القفز المتعمد من فوق مسألته المعقدة وأزمته الخطيرة التي من بين نتائج تفاقمها تعطيل الحياة بقوة المدافع والصواريخ المبيدة لكل الباقي في الحي وسبحان الحي الباقي؟!
لن نصدق إن العالم الذي أهملنا لمدة خمس عشرة متصلة قد استفاق ضميره “الحي”، هو الآخر، الآن ، فقرر أن يرحمنا وأن يستنقذ ما تبقى من أعمارنا وبلادنا وأحلامنا في غد، أي غد…
فلا الدول بذات ضمير، ولا هي تعمل متأثرة بعواطفها (إن كان لها عواطف) ولا قد زاد القصف في حجم لبنان بحيث فرض نفسه بنداً أول على جدول أعمال قادة الدول كبيرهم والصغير!
ماذا إذن؟! ولماذا إذن يطلبون بكل هذه النبرة الحازمة وقف النار؟!
ولماذا لا يقولون بعد هذه العبارة السحرية شيئاً، كلمة ما، وعدا ما حول ما بعد وقف النار؟!
لماذا يجمعون على طلب الهدوء المؤقت في بلد العواصف والرمال المتحركة، كما يصفونه عادة؟!
مع ترحيبنا بأي مسعى لوقف النار، فإن الجو مريب إلى درجة لا تجعلنا نطمئن إلى الوقف إذا ما تحقق، بل لعلنا نخاف مما يدبر لنا، في لبنان والمنطقة، عبره بأكثر مما نخاف من النار نفسها،
فالمؤكد إنهم يريدون الهدوء لتمرير أمور خطيرة…
عبر القمة الاستثنائية التي تبرع باستضافتها الحسن الثاني في المغرب الأقصى بغير إنذار مسبق؟!
عبر القمة الاستثنائية التي تبرع باستضافتها الحسن الثاني في المغرب الأقصى بغير إنذار مسبق؟!
عبر القمة العادية التي “اقتنع” فهد بن عبد العزيز بضرورة تأخيرها، ريثما تنجز “المهمة القذرة” بعيداً عنه، فيقطف من بعد ثمار الصبر على القمة الذي بلغ الآن عامه السابع؟!
عبر الفترة الفاصلة بين القمتين؟!
هل الهدوء مطلوب لتمرير التنازل الفلسطيني الهائل في جو من “الإجماع” العربي على إسقاط رايات التحرير لغته ومفرادته وآخرها الميثاق الوطني الفلسطيني؟!
أم هو مطلوب لتمرير “إجماع” عربي، بالموافقة على مشروع شامير بالانتخاب في الأراضي المحتلة بدلاً من الانسحاب منها؟!
… وهل هو مطلوب لطي صفحة الانتفاضة المجيدة في فلسطين المحتلة باعتبارها تنتمي إلى جيل مضى وانقضى ولا مجال لاستعادته وفرض منطقه (وأدواته وأساليبه) من جديد؟!
أم تراه مطلوباً لبت وضع الدولة الفلسطينية في الأردن فيتبدل الاسم ولا يتبدل الملك، أو يتبدل كلاهما حتى لا يتبدل شيء في إسرائيل… باعتبارها تستند إلى التوراة التي لا يجوز فيها التبديل أو التعديل؟!
مع إن وقف النار في مرتبة الأمنية، فالتساؤل يظل أقسى من أن تطمسه الفرصة المختلسة بتحققه ولو لبضعة أيام،
لقد تراجعت “الدول” عن الهدنة وقررت إن وقف النار، المؤقت محدود والهش والأعرج والمعاق، يكفي، بل هي تكاد تقول إنه “بزيادة عليها وبنا”،
وممثلو الدول لا يكذبون علينا بالادعاء – مثلاً – إن وقف النار مجرد محطة لالتقاط الأنفاس من أجل فتح الملف السياسي للأزمة في لبنان.
إنهم يقولون لنا “هس”، ولا يزيدون،
والفصيح منهم يهمس بنا صه!!
والكل يكاد يبلغنا وجاهياً إن وقف النار في لبنان مطلوب لأسباب تتعدى حدود هذا البلد الذي كان أخضر، فلماذا هذا الوقف الذي نتمسك به تماماً الغريق بخيط العنكبوت، ونخاف منه خوف الفارة من القط؟!
لماذا، لماذا، لماذا؟!
إنها تدوي في الوجدان أقوى من قذائف مدافع الـ 240 ملم!!
واللبنانيون بمختلف طبقاتهم وفئاتهم، بالكبير منهم والصغير، بالمطلع والجاهل والأمي، يستشعرون إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة،
… لكنهم مع هذا ينتظرون، باللهفة كلها، عودة الأخضر الإبراهيمي ومن معه، وكأنه موعد مع القدر، مع سحب اليانصيب، مع جائزة الملايين التي يقصف بها “اللوتو” جمهور الفقراء في فترات وقف النار،
… ومنابع القلق عديدة ومنتشرة في كل مكان، داخل لبنان وخارجه، من حوله في المنطقة العربية وفي البعيد البعيد!
فنحن في عصر التحولات المذهلة: ما لم نكن نقدر على تخيله صار واقعاً حياً ينبض أمامنا، وما كنا نعتبره مستحيلاً صار عناوين عريضة في الصحف، وما كنا نعيشه صار حلماً بعيد المنال، كمثل أن نفهم كيف يكون وقف للنار مع تجاهل لأسبابها ومسببيها والمنتفعين بها؟!
والنار أنواع،
بينها القصف بالمدافع، وبينها أيضاً القصف بالطحين والخبز والبنزين والمازوت والمعادن والغاز، وهذا القصف لا يشمله وقف النار، لا المؤقت ولا الدائم،
فلواء البطولة فيه ليس معقوداً لميشال عون وحده، بل لكل الميشالات عون الذين يتحكمون البلاد ورقاب العباد، مطمئنين إلى أن إرادة الدول تشمل وقف نار المدافع وحدها بينما تغذي “نيرانهم” هم وتوسع دائرة انتشارها القاتل.
على إن بين آمالنا التي تعلمنا الحكمة ما يفيدنا أن اشتداد الأزمة إنما يبشر بفرج قريب،
و… تفاءلوا بالخير تجدوه،
فاوقفوا النار واقبلوا مع الأخضر الإبراهيمي إن شاء الله لا يكون إلا الخير، في انتظار رفع الأمر إلى الشيخ صباح ولجنته السداسية الموقرة، ومن بعدها إلى القمة الاستثنائية فالعادية. وبعدها قمة الجبارين وبعدها ما لا يعرف أمره إلا الله، والله ولي الأمر، من قبل ومن بعد، وعلى الله فليتوكل المتوكلون!