طلال سلمان

على الطريق حروب التغيير… البيضاء!

يتغير العالم بأسرع من قدرتك على الفهم والتقبل ومن ثم التكيف مع “الحقائق الجديدة”، خصوصاً وإنها تمس من حولك بل الأقرب إلى نفسك ووجدانك وبديهياتك القديمة وذكريات الزمن الجميل.
إنهم يتغيرون!! لكأنهم ليسوا هم!!
** ها هو الإسرائيلي يرفع الحظر عن الاتصال بمنظمة تحرير فلسطين،
… والإسرائيلي لم يتغير قطعاً إلى هذا الحد. الأقوى يغير أكثر مما يتغير، الضعيف هو القابل للتغير إلى حد الانكسار تحت ضغط عدوه القومي.
ومن تغير، هنا، هو العربي عموماً والفلسطيني على وجه الخصوص.
لقد حمل ذات يوم سلاحه وقصد إسرائيل ليغيرها فيحرر منها فلسطين،
بعد ربع قرن أو يزيد، ها هي إسرائيل في الداخل العربي، وفي الداخل الفلسطيني تحديداً.
فشل الهجوم المقدس للتحرير، ونجح الهجوم المعادي المضاد، فتم اختراق شعار التحرير، وتم استيعاب حملة الراية، فلا مانع بعد ذلك من محاورة من سلم بالخسارة، وسلم بالعدو حاكماً مكتفياً بموقع “المعارض”… من داخل الكيان، وربما من داخل النظام، وكجالية أجنبية، أو كاقلية عرقية أو كعينة لشعب أو أمة في طريق الانقراض!
“الداخل”… كان الهدف فصار الذريعة،
أما “الخارج” الذي كان أملاً فقد تحول إلى عبء يثقل كاهل “الداخل” فيحاول التملص منه، فلا يضيع الإسرائيلي الفرصة للوقيعة والفتنة تمهيداً لاستيعاب “عدوه” الذي تحول – أو يكاد – إلى طرفين (بل أطراف؟!) متنازعين، مستضعفين وخائفين من أن تضيع الفرصة بقدر خوفهما من أن تدهمها ساعة الحساب وتنبت الأرض بديلاً منهما معاً.
أزاح الابن أباه، فقد بلغ سن الرشد وبات قادراً على ممارسة سلطة القرار.
لم تعد “الانتفاضة” مجرد امتداد للمنظمة. لقد ورثتها. وكانت المفاوضات، بالشروط الإسرائيلية، الفرصة لكي ينتزع القوي بالانتفاضة حق الكلام. فطالما لم يعد التحرير الهدف بل الحفاظ على ما تبقى من الأرض فمن على الأرض هم الأجدر والأحق بتمثيلها وحمايتها، وطالما غابت أمنية “الدولة”، وابتعد حلم “الوطن”، وصار المطروح “الحكم الإداري الذاتي” للسكان فمن حق المعنيين به أن يقرروا. أما “الآخرون”، الأشقاء الذين في البعيد، فلهم الله والأحلام وانتظار تبدل الأحوال ومجيء أجيال جديدة أعظم همة لكي تبدأ مرحلة مختلفة من النضال الذي قد يستغرق قرناً من الزمان!
** على الضفة العربية الأخرى للبحر الأحمر ها هو “الأميركي البشع” يجيء في صورة ملاك مخلص. لقد نزع جورج بوش ، في الأيام الأخيرة من رئاسته للكون، ثياب القائد العسكري المظفر، محقق النصر المذهل على العرب، وارتدى ثياب المسعف في الصليب الأحمر، وتقدم بثلاثين ألفاً من جنوده “السابقين” لإنقاذ الجياع في الصومال ومسح وصمة العار هذه عن جبين الإنسانية.
الأعظم في العالم ينحني ليقدم الغذاء للأطفال السود في الأرض الخضراء التي أحرقتها الحروب الأهلية!
ومن السهل أن يقال عنه الآن: إنه أنقذ “العرب” مرتين، الأولى في الكويت والجزيرة والخليج عموماً، والثانية على الضفة الأخرى في القرن الأفريقي: مرة أنقذهم من “الطغيان” وأتاهم بـ “التحرير” ومعه بشائر “الديموقراطية” كمدخل إلى حقوق الإنسان، ومرة ثانية من نتائج الطغيان، أي الانقسام القبلي والمرض والجهل والجوع وخطر الإبادة، وأتاهم بالرغيف كمدخل لإبقائهم بشراً على قيد الحياة،
العالم يتغير،
لكن العرب يتشقلبون، ويقومون بحركات بهلوانية تستدر البكاء لا الضحك!
إنهم يندفعون للاستسلام والتبعية باسرع مما قدر أو أراد المتبوع. وليس الوقت لإطلاق حملات اللوم أو التشفي أو حتى المرارة،
ففلسطين تضيع بينما “العرب” يضعون المسؤولية على الفلسطينيين، سواء من في الداخل أو في الخارج أما الفلسطينيون فينسبون هزيمتهم – في المنظمة كما في الكفاح المسلح ثم في الانتفاضة – إلى “العرب” الذين تخلوا عنهم فباعوهم بأبخس الأثمان.
ولعل أهل الداخل يعتذرون بقيادة الخارج، والعكس بالعكس.
الحقيقة البسيطة: إن لا فلسطين على جدول أعمال العالم في المدى المنظور.
أما بالنسبة للصومال فلم يشغل “العرب” عنه إلا ما هو أهم منه: لمن إذن يتركون مصير المسلمين في البوسنة والهرسك، وكذلك أفغانستان، وكشمير التي تعاني من تحكم الهندوس بمصيرها؟!
إن “العرب” ومعهم سائر المسلمين مجتمعون الآن في جدة، على البحر الأحمر ذاته الذي يقوم حداً ثانياً للصومال، لكن مسؤولياتهم الثقيلة تمنعهم من معركة ما يجري في تلك الأرض التي استطونها العرب قبل التاريخ ومنها انطلقوا إلى سائر أنحاء أفريقيا حتى قبل أن يشرفهم الله برسالة الإسلام.
إنهم لو أصغوا لسمعوا عويل الأمهات الثكالى، ولو حدقوا لابصروا آلاف الرجال والشيوخ والنساء والأطفال وهم يتهاوون ايعاء فيندثرون ويطعمون أجسادهم الهزيلة للأرض التي لم تعد تطعمهم.
ولكن لا وقت للنظر أو للإصغاء،
المهم البوسنة والهرسك، فهناك يتقرر مصير العرب والمسلمين،
أما فلسطين فتستطيع أن تنتظر، لقد مكث الصليبيون فيها أكثر من قرن ونصف القرن ثم رحلوا أو ذابووا، وما زال أمام العرب قرن كامل ليكرروا مع الإسرائيليين ما فعلوه بالصليبيين.
وأما الصومال فإن شعبها قادر على تجديد نفسه. المؤمن ولود، وفي ظرف سنوات قليلة سيعوض من يبقى من أبنائها حياً كل من فقدته بلاده من أهلها.
ثم إن “السيد” الأميركي شخصياً قد أعلن نفسه منقذاً، فما الحاجة إلى مساعدات تافهة من هذه “المملكة” أو تلك؟!
مضى زمن الحرب الحمراء.
إنه زمن الحروب البيضاء.
والعرب الذين خسروا تلك يخسرون هذه أيضاً.

Exit mobile version