بين “خلدة” اللبنانية و”الخالصة” اللبنانية – الفلسطينية التي صار اسمها – بالقهر – “كريات شمونه”، يتحدد مستقبل المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي، ويتحدد بالتالي ليس مستقبل لبنان فحسب بل مستقبل الوطن العربي برمته.
ذلك إن إسرائيل تطمع – وتحاول – أن تأخذ من البلد العربي الأضعف الحد الأقصى من المكاسب والتنازلات التي تخدم مشروعها العتيد في المنطقة المنداحة بين المحيط والخليج، بل وأبعد من ذلك: إلى الباكستان على خاصرة الهند والصين، وإلى تخوم الكتلة الاشتراكية في ما وراء تركيا.
وإسرائيل تدرك أن لحظتها المناسبة هي الآن، والآن تحديداً، لأسباب موضوعية محددة وموصوفة:
*فلبنان مثخن بالجراح، ممزق الجنبات والقلب، مهيض الجناح، يحاول – بإرادة الحياة فيه – أن يعيد بناء دولته لتلم أشلاء أبنائه وأرضه ومؤسساته.
*والوضع العربي، عموماً، في الدرك الأسفل من الانحطاط والتردي، والجنوح إلى الاستسلام، كائناً ما كان الثمن، ورهانه اليتيم يقوم على افتراض إن واشنطن لن تسمح بسقوط الأنظمة الصديقة لها والتي لا تبارى في اعتدالها وخضوعها للمقتضيات الاستراتيجية “للعالم الحر” وعلى رأسها ازدهار المجتمعات الصناعية بوصفها أداة التقدم الإنساني!
*و “أقوى” وسائل التأثير، دولياً، هو ما تريد أو ما تستطيع إدارة الرئيس الأميركي ريغان أن توفره من نوايا واستعدادات لمنع المشروع الإسرائيلي من التهام حصة تزيد عن الكوتا المقررة للدولة اليهودية في هذه المنطقة التي يبدو وكأنها أقطعت للأميركيين حتى إشعار آخر على الأقل.
وهكذا تنغلق الدائرة على لبنان: يطلب سلاحاً لجيشه فينصح بالتوجه إلى واشنطن، ويطلب مالاً لإعادة البناء وترميم ما خربته الحرب فيقال له “- هات لنا إذن صرف من واشنطن”! ويطلب ضغطاً فعالاً لإخراج جيش الاحتلال الإسرائيلي، فيأتيه الجواب، “حاضرسنتصل كرمى لخاطرك بالرئيس ريغان”!
… ويكون أقصى ما تعطيه واشنطن: موريس درايبر وتحت ابطه قاموس لاختيار المصطلحات التي يمكن أن توفق بين مطالب الغازي وتنازلات المغلوب على أمره، وفي فمه نصيحة لا يتعب من تردادها إن عجلوا بالوصول إلى اتفاق قبل أن تقترب “حرب” الانتخابات عندنا فننشغل عنكم بأنفسنا وبصل استفراد الذئب الإسرائيلي بكم إلى الذروة!
وما تعطيه واشنطن هو أقصى ما “ينتزعه” الضغط العربي العام ممثلاً بقمة فاس وقراراتها ولجنتها السباعية بكل من ضمت من ملوك النفط والفوسفات والغاز والمنغنيز إلى آخر الثروات “العربية” في ما عدا الإنسان.
وإذا ما استثنينا الدول والقوى المعترضة على التفويض العربي المطلق المعطى للولايات المتحدة الأميركية، ولإدارة الرئيس ريغان (وهي في أي حال دول معدودة وقوى محدودة جداً)، فإن من حقنا أن نسأل الدول الأخرى، وهي التي تدعي إن لها قوة الفعل والفاعلية وترشح نفسها لأدوار زعامة على مستوى العالم: أهذا كل ما تستطيعين لدى واشنطن؟! أو هذا كل ما تستحقين من واشنطن مقابل لاتحالف الاستراتيجي الخارق الذي انخرطت فيه باختيارك، وأحياناً بلا طلب؟!
وأين ذهبت وتذهب كل تلك المساعدات الهائلة بالمال والنفط والموقف السياسي للدول الغربية الكبرى (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، ألمانيا الغربية وصولاً إلى إسبانيا الملكية والسعي المشكور لتبرئة البرتغال من مظنة الاشتراكية)؟!
وهل من يعجز عن تحرير بعض القرى في قضاء عاليه مؤهل لأن يدعي القدرة على تحرير القدس الشريف ومسجدها الأقصى؟
والسؤال ينطبق على إدارة ريغان كما على حلفائها وأصدقائها العرب، أما الجواب فيذهب بعيداً بعيداً إلى حد اتهام هؤلاء العرب بالتواطؤ على لبنان لدفعه إلى الاستسلام (أو ما يماثله) ومن ثم تعلو الأصوات بالاتهام لتبرئة النفس وادعاء الحرص وعدم التفريط.
وبهذا المعنى يصبح التخلي عن لبنان المفاوض وجهاً آخر للتخلي عن الفلسطيني المقاتل، وتصبح الخيانة خيانتين وما بينهما قمة ملوكية!
ونقولها صريحة لمن يريد أن يسمع: بدل توجيه النصائح والتحذيرات إلى الحكم اللبناني من مغبة التنازل والانزلاق إلى توقيع المعاهدة، وفروا ما تستطيعون دعمه – فعلاً – لهذا الحكم، وسنتولى – نحن شعب لبنان – محاسبته إذا ما فرط بعد أن يتوفر الدعم المطلوب.
فليس صحيحاً القول إن لبنان شعباً ودولة قط سقط في الفخ الإسرائيلي، وإن المتعاونين مع إسرائيل هم الأقوى والأعظم نفوذاً والأقدر، فيلبنان.
إنهم حتى هذه اللحظة أقلية، ولكن قوتهم تزداد طردياً مع تناقص الفعالية العربية والمساندة العربية الجدية.
إن إسرائيل تحاول أن تنتزع من لبنان ما لم تستطع أخذه حتى من السادات، لأن الوضع العربي العام يغريها بالمحاولة، إضافة إلى استمرار الجروح الداخلية في النزف.
إن إسرائيل تعتبر المفاوضات، “حرب لبنان” الخاصة، وتريد لها نتائج مشابهة لما جنته من حروبها مع سائر العرب: فأما احتلال (كما في الضفة والقطاع وما سبق من أرض فلسطين)، وأما معاهدة وتطبيع (كما مع مصر السادات) وأما ضم كما في الجولان.
بل لعل إسرائيل تحاول أن تصل في لبنان وبه إلى شيء من هذا كله،
وبإمكان العرب – بعد – أن يمنعوا مثل هذه الكارثة.
والمجال أمامهم مفتوح بغير حد، طالما إن الحاكم اللبناني لم يخضع ولم يركع وأعلنها قاطعة إنه لن يعطي في السلم ما لم يأخذه جيش الاحتلال بالحرب.
المجال مفتوح بدءاً من المساعدة على تمتين الوضع الداخلي ومعالجة الجراح النازفة، وانتهاء بالضغط الجدي والفعال على واشنطن والآن من أجل أن تجبر الغازي الإسرائيلي على الانسحاب.
هذا دون أن نسقط من الحساب إمكان تدعيم صمود الشعب اللبناني بالوسائل إياها التي تقوي صمود أي كان في مواجهة قوة احتلال غاشمة.
والحق إن الحاكم اللبناني قد فعل ما في وسعه لتأكيد حقيقتين أساسيتين:
*الأولى هوية لبنان العربية.
… وبقي على حكام العرب أن يظهروا من الحرص عليها قدر ما أظهر.
*واستعداده للصمود في مواجهة الضغط الإسرائيلي، مستعيناً بما يوفره التفاق الناس حول مهمة التحرير، والوسيط الأميركي الذي ما يزال يهرب من دور “الشريك الكامل” في المسؤولية عن الغزو وبالتالي عن نتائجه.
… وبقي على حكام العرب جميعأً أن يدعموه بما ملكت إيمانهم، وما أكثر وأعظم ما تملك هذه الإيمان لو إنها صدقت العزم في ما يفيد أمتها و… عروش ملوكها.
وإلا فلسوف يكون بإمكان الحكم اللبناني في غد أن يرجع ما سيحل به إلى تخلي العرب، وسيكون بقدرته أن يحاسبهم حتى لو فرط، بدل أن يحاسبوه هم مدعين لأنفسهم البراءة من فعله!
وستظل صورة السادات فيهم وليس في أمين الجميل.
خصوصاً وإن التاريخ شاهد بعد وناطق وحي في ضمائر الناس جميعاً، وهم الذين استغربوا أن يذهب ويتخلفون وأن يسقط ويبقون.
وسيقول التاريخ، بعد لبنان، إن إمبراطورية إسرائيل قامت بقرار عربي، وأغلب الظن إنه لن يقول: إن قراراً أميركياً قد عطل قيامها،
… إلا إذا كان العرب في مستوى هذا القرار.
وهذا هو الامتحان المفتوح بين خلده اللبنانية والخالصة الفلسطينية التي صارت – بالقهر والتخلي – كريات شمونه الإسرائيلية!