بإرادة الحياة، بحب الأرض والتعلق بكل صخرة وكل حبة تراب أو رمل، بالإيمان بالإنسان العربي في لبنان وخارجه: بهذا فقط استطعنا أن نبقى هنا، ونستطيع الآن أن “نبشر” ما بعد الحرب وأن نعمل له وكأنه آت غداً.
الوقائع والمعطيات والتقديرات والمعلومات والتقارير والاستطلاعات والاستنتاجات المنطقية جميعاً تقول بالعكس، وتحكي عن لبنان بصيغة الماضي ولا تلحظ له وجوداً مستقلاً أو محدداً في المستقبل،
لكننا كمن مُني بكارثة: لا يستطيع التسليم بنتائجها القاسية، ويكابر ويصارع لتخطي هذه النتائج وتأكيد قدرته ومن ثم وجوده المهدد. يهرب من الانتحار إلى المغامرة، مكتفياً – إذا ما فشل – بشرف المحاولة بديلاً عن خزي الاستسلام.
كل شيء فينا ومن حولنا حطام،
فلقد استهلكتنا الحروب المتعددة الأسماء والشعارات على امتداد عصر 13 نيسان 1975 الذي لا تبدو له، حتى الآن، نهاية واضحة، مثله في ذلك مثل عصر 5 حزيران 1967، ومثل عصر 4 – 6 حزيران 1982، والكل في أي حال واحد وإن تعددت الوجوه والساحات… فالهزيمة القومية هي هي وما نشهد ونعيش هي تجليات متنوعة ومتكاملة لها، لا أكثر.
بل لعل كل شيء قد بدأ، فعلاً، مع إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين،
لكن ذاكرتنا المثقلة بوقائع آخر الحروب لا تتحمل عناء استعادة وقائع أول الحروب، وإن كنا ممن يفترض إنها حرب واحدة لا غير، تتجدد وتتمدد متخذة في كل حين اسماً حركياً مختلفاً.
12 سنة من القتال ضد الذات!!
12 سنة بلا شمس، بلا قمر، بلا غنة ناي، بلا زغرودة فرح، بلا ابتسامة الأقحوان، بلا عطر وردة منداة بلمسة يد حبيبة،
12 سنة بلا كتاب، بلا قصيدة، بلا أغنية، بلا إبداعة، بلا التماعة فكرة خلاقة… أليس من الطبيعي أن تكاد تنتهي بلا رغيف لجائع ولا عمل لقادر ولا مستقبل لأجيالنا التي استولدتها الحرب واسترهنتها الحرب، ووقفنا نحن نبكيها ونستبكي لها قتلتها؟!
لا أحد، لا شيء كما كان، لا شيء، لا أحد يمكن أن يعود كما كان،
أنت لست أنت، حتى ملامحك تبدلت. خالد الخوف لون البؤبؤ فما عاد هو، وحفر الهم أخاديد في وجنات أطفالك فما عادت هي، وأنساك الحلم الذي يداهمك، في لحظة إغفاء قصيرة فينكرك وتكاد تنكره اختلف كل من حولك، اختلف كل ما حولك، اختلفت مع وعن كل من وما حولك، فأنت في خصام دائم مع الناس والأمكنة والذكريات، وحربك الخاصة مفتوحة بقدر ما هي مفتوحة الحرب القذرة العامة التي تسكر عليك الجدران جميعاً فلا تمنحك طاقة للتنفس أو لتسلل حزمة ضوء.
لا الأمكنة هي الأمكنة ولا من فيها هم من كانوا فيها، ولا صلة انتماء بين الناس والزمان والمكان… فمن أين، إذن، تجيء الأفكار وكلمات الحب، وكيف سيسمع رفيف أجنحة الفراش؟!
وإذا كان كل الناس قد تغيروا، وإذا كانت كل الأمكنة قد اندثرت أو تبدلت معالمها تحت وطأة الندوب والجراح المقطعة للأوصال، فكيف إذن سيكون لبنان لبنان الذي كانه؟!
لا أرضه أرضه التي كانت، وبعضها محتل بعد، والبعض الآخر مشطر، مقسم، مجزأ، لكل شطر منه تخوم وحدود ملغمة، وبوابات عبور تفتح بالساعة وبالنفر…
بل لعل كل أرضه محتلة. العدو يحتل بعض الجنوب، والقوى المتناحرة المقتتلة والمنشغلة عن العدو الوطني والقومي، تحتل كل منها قطعة منها وتسورها بالحديد والنار وأجداث الشهداء لتمنع عنها “الشركاء في الوطن” ناهيك برفاق السلاح القدامى!!
أما الكيان والنظام والصيغة، فمواضيع للعراك اليومي، برغم إنها قد انهارت فماتت كلياً أو جزئياً، ونحن نجدد الحرب ولا نجددها!!
وأما الدولة والحكم والحكومة فسبحان الحي الباقي!
الدولة منهبة وكم من المال السائب يعلم الناس الحرام، والحكم أمير خائف والحكومة أمراء مغبونون، لا الأول يريد أن يكون رئيساً، ولا أي من الآخرين يقبل بالنزول من مرتبة الأمير إلى مرتبة الوزير، فالكل يريد أن يخدمه الناس وأن يموتوا من أجله، ولا يتواضع فيقبل بأن يخدم هو الناس والبلاد،
ولكل منهم حربه، تضاف أو قد تحل محل الحرب الأصلية، العربية – الإسرائيلية، وغالباً ما تقدم عليها، حتى تم استهلاك القضايا جميعاً ومعها ناسها،
وهكذا بعد 12 سنة نجد أنفسنا كما نحن: الكل أعجز من أن يحارب وأعجز من أن يسالم وأعجز من أن يعود إلى ساحة الحرب الأصلية من أجل استنقاذ من وما تبقى من البلاد وأهلها وقضاياهم.
ويصير المطلب الأهم والأوحد: الأمن! الأمن بأي ثمن وعلى حساب أي شيء!
والأمن ضروري للحياة، لكن الحياة أعظم من أن تكون الأمن فحسب، الحياة نهر متدفق من الأفكار والإرادات والعقائد والمطامح والمصالح والإحساس بالجدوى والدور والنضال من أجل هدف وتحقيق أمنية. وكل هذا يلزمه أمن، لكن الأمن وحده لا يغني عن هذا كله.
من أجل الأمن ضحينا بالكثير مما يبرر طلب الأمن. خسرنا من أنفسنا، من معنى وجودنا، من حقوقنا الطبيعية، ناهيك بالكرامة والعنفوان والعزة والسيادة الخ..
ألا يقدم الأمن الآن على السياسة والصراع السياسي ويطلب لجم هذا المطالبة بالرغيف حتى لا يعكر الأمن؟ لا بأس بالجوع مع الأمن، يكاد يقول البعض، والجوع لن يسمح لأمن بالاستقرار، وترتفع الأصوات محذرة: لا تحركوا موضوع المطار، أو الهيمنة على المرافئ أو النهب المنظم للخزينة، حتى لا يختل الأمن.
بل يقدم الأمن على وحدة البلاد، فيفرض علينا التسليم بخطوط التماس من أجل الأمن، ونكاد نطالب بقبول لحد كأمر واقع حرصاً على أمن الجنوب، بل ونكاد نطالب بالتسليم بالاحتلال الإسرائيلي لهذه الغاية.
ومن قبل فرض علينا التسليم بحكم الميليشيات باعتبارها ضمانة أمننا، وهي متربصة بنا الآن ننتظر فرصة تجديد الحرب، وتعمل لها بدأب، حتى تعود إلى التحكم بنا باعتبارها ولية أمرنا الشرعي!
صار الأمن القضية، وصارت القضية إجراءات وتفاصيل أمنية،
صار المخيم مصدر خطر على الأمن، وصار جوار المخيم مصدر خطر على أمن المخيم، وغاص شعبان عربيان في وحل الجريمة والانحراف حتى قعر القعر، ولا مغيث.
صار الحي السكني هدفاً عسكرياً، بحجة حماية أمن الحي الآخر،
صار الرغيف حدثاً أمنياً، ومعه البنزين والطحين والمازوت،
وصارت الليرة مجرد تعبير تافه عن الوضع الأمني،
أكثر من هذا: صارت هوية البلاد موضوعاً أمنياً، إذا قلت بعروبتها كنت كمن يجدد الحرب!
والطريف إنه في حين تزايد الجدل حول هوية البلاد الوطنية والقومية واتخذ شكل الصراع السياسي المحتدم كان المواطن في كل منطقة من مناطق لبنان يحتاج هوية مختلفة عن هويته في المنطقة الأخرى ليبقى على قيد الحياة!
كثيرة هي توصيفات الحرب التي تلتهم لبنان واللبنانيين والقضية الفلسطينية والفلسطينيين منذ 13 نيسان سنة 1975.
ومؤكد إنها مجموعة حروب متداخلة، فيها المحلي وفيها العربي و”الإقليمي”، حتى لا يسمى الصراع العربي – الإسرائيلي باسمه الصريح، وفيها الدولي كانعكاس للصراع المفتوح بين الجبارين.
لكننا نحن، أدواتها وضحاياها، نتسبب في إطالة أمدها وفي تفاقم النزف القاتل.
فإذا لم يسلم أحدنا بالآخر، وبحقوق الآخر، فكيف سيبقى لنا بلد شرط وجوده أن يكون واحداً الكل فيه مسلم بوجود الكل فإذا نقض أحد هذا الشرط سقط مبرر وجود البلد ذاته؟!
كيف سيبقى بلد يختلف عليه أهله، هوية وانتماء ونظاماً وصيغة حكم، إلى هذا الحد المدمر؟!
إن لبنان الذي كان ذات يوم صيغة مبتدعة لمنع حرب أهلية عربية – عربية يكاد يصبح اليوم، وفي ظل تفاقم العجز العربي عن مواجهة العدو الإسرائيلي، مجمعاً للحروب الأهلية العربية.
وبقدر ما يستعيد لبنان صيغته الأصلية، مأخوذاً فيها بعين الاعتبار واقع الصراع العربي – الإسرائيلي، يمكن الاستبشار باقتراب الحل، اقتراب السلام، اللبناني والعربي بالضرورة.
وفي انتظار ذلك اليوم الموعود سنعيش في الحرب وبالحرب،
ولكننا هنا سنبقى وسنزيد من حدة قتالنا ضد الحرب والمحاربين في الساحة الغلط ومن أجل أهداف عدوهم.