هي الحرب، إذن، وهي الحرب الإسرائيلية دائماً.
وقد تعدّد توصيفاتها والتسميات، بقدر ما تتعدّد استهدافاتها المباشرة والأبعاد الاستراتيجية.
فهي حرب غزة – أريحا.
وهي، أيضاً، حرب الخروج من مؤتمر مدريد.
وهي، بالتالي، حرب التمهيد للصلح المنفرد الثالث، ولو بعد سنين.
وهي أخيراً الحرب لاستعجال انضمام المتعجلين من عرب الهزيمة إلى الخندق الإسرائيلي، بحيث يضيق الحصار على من تبقى من عرب ا لصمود ومحاولة الوصول إلى تسوية تستبقي مستقبلاً ما للأجيال الآتية،
لم تتوقف إسرائيل عن الحرب يوماً واحداً.
لم تشغلها “العملية السلمية” عن الاستعداد للحرب، ولا جمدّت المفاوضات أو الخشية على انفراطها، ممارستها للحرب، وبكل الأسلحة، وعلى مختلف الجبهات.
بل كان مؤتمر مدريد فرصة فريدة لكي تبتز إسرائيل راعية الأميركي فتأخذ منه، وبموافقة الطرف العربي، أو بعجزه عن الاعتراض، أحدث أنواع الطائرات الحربية والمروحيات والصواريخ “كرشوة” للموافقة على المشاركة، مجرد المشاركة، في المؤتمر الذي كان يفترض به أن يكون “جائزة ترضية” للعرب الذين تصدوا بالسلاح لغزوة صدام حسين الحمقاء للكويت موفرين التغطية الضرورية “للتحالف الدولي” حتى لا تظهر طبيعته كاحتلال أميركي مباشر للمنطقة النفطية.
وعلى امتداد الفترة بين افتتاح مدريد في 30 تشرين الأول 1991 واليوم، استمرت النار الإسرائيلية تحرق لبنان، وعبره سوريا والمعارضة الفلسطينية، دون أن تنفع الوعود بالسلام الأميركي في إطفائها أو وقفها عند حدود لا تتجاوزها.
وعشية التوقيع الفلسطيني على اتفاق أوسلو بلغت الحرب الإسرائيلية على لبنان، مع التركيز على المقاومة فيه، وعلى سوريا عبره، ذروتها، فكان الاجتياح الجوي في أواخر تموز من العام الماضي، الذي سرعان ما ألحقبهدنة الكاتيوشا للإعلان عن ذلك الاتفاق البائس عبر الاحتفال الدولي الباهر في حديقة البيت الأبيض بواشنطن يوم 13 أيلول 1993.
منذ ذلك التاريخ لم يعد لمؤتمر مدريد من وظيفة، أقله بالنسبة للإسرائيلي.
وإذا كانت حكومة شامير قد حاولت نسف المؤتمرأو تعطيله بالموقف المتطرف، فإن حكومة “السلام” الإسرائيلي بقيادة “رجل أميركا” إسحق رابين قد أفادت منه كمظلة للوصول إلى الصلح المنفرد مع الفلسطيني.
بعد ذلك كان منطقياً أن تنتقل إسرائيل إلى الهجوم المباشر والمتعدد الجبهات: بواسطة أدواتها المحلية، تخريباً واغتيالاً وتفجيراً ومحاولات حثيثة لإثارة الحساسيات الطائفية، إلى الغارات الدورية على جيوب المقاومة، في أكثر من منطقة، بهدف تفريغ المناطق الحدودية من سكانها، وتقويض هيبة الدولة وسمعة الجيش الوليد، فإلى التحريض ضد الوجود العسكري السوري وإلى هز الثقة بصلابة الموقف السياسي السوري المعزز للصمود اللبناني، على الأرض كما على طاولة المفاوضات.
ضمن هذا السيق تأتي أيضاً الغارات بالنار على المحاصيل الزراعية والأشجارالمثمرة، في الجنوب خاصة، والتي تتعدى كونها حرب تجويع للأهالي وفضح لعجز الدولة ليس فقط عن منعها بل كذلك عن إطفاء الحرائق، لتصب في الاستهداف الأصلي: حماية مؤخرة اتفاق غزة – أريحا، بنقل المواجهة إلى جبهة المعارضين أو المتضررين منه.
ثم كان لا بد من تركيز النار على الدور السوري في لبنان، ومن كسر الهالة التي يتمتع بها الموقف السوري عربياً، والتي اتخذت أبعاداً دولية بعد قمة كلينتون – الأسد في جنيف.
وهكذا تم استدراج بعض أقطار الخليج والمغرب العربي، بالرغبة أو بالترغيب، إلى إقامة جسور مع الإسرائلي، عبر المفاوضات المتعددة بداية، ثم مباشرة.
ثم بدأ التركيز في العمليات العسكرية على البقاع، أي على الحديقة الخلفية لدمشق، فكانت “عملية الديراني” فجر عيد الأضحى، قبل ثلاثة عشر يوماً، ثم غارة الأمس على معسكر لـ “حزب الله” في بعض جرود بعلبك.
إنه طوق بالنار من حول سوريا ولبنان (واستطراداً الأردن).
إنها محاولة لمحاصرة رافضي الصلح المنفرد وإظهارهم كأقلية ضئيلة و”متطرفة” لا تحسن قراءة خريطة التحولات الدولية وموقع إسرائيل في خريطة “الشرق الأوسط الجديد”.
وبدل أن يكون اتفاق غزة – أريحا في موقف دفاعي صعب، سواء داخل الأرض الفلسطينية المحتلة أو على امتداد الأرض العربية، فرض على العاملين لإسقاطه والمعترضين عليه أن يلتزموا مواقع دفاعية، مع محاولة إظهارهم كأقلية غير مؤثرة، وعاجزة حتى عن حماية مواقعها ذاتها.
أين مؤتمر مدريد؟! وأين “العميلة السلمية”، وأين المفاوضات وجولاتها المعلقة؟!
لم يعد لذلك المؤتمروظيفة، ولم يعد للمفاوضات موضوع.
و”فشل” الجولتين الأخيرتين لوزير الخارجية لاأميركي وارن كريستوفر في المنطقة لا يعني غير توكيد الحقيقة القائلة إن إسرائيل لم تعد معنية إلا بغزة – أريحا، أي بشطب الموضوع الفلسطيني وسحبه من التداول الدولي، وتقزيم الصراع العربي – الإسرائيلي إلى منازعات حدودية لا تنذر بأية مخاطر جدية مع كل من سوريا ولبنان، واستطراداً الأردن… وبالتالي فلا بأس من تركها في البراد لسنة أو سنوات أو حتى يحلها اليأس أو تنتهي بالشيخوخة!
إنها الحرب، ومن طرف واحد.
إنها الحرب الإسرائيلية وأخطر أسلحتها الآن الاتفاق الفلسطيني.
وهي الحرب على لبنان وعلى سوريا تحت عنوان المقاومة، كل المقاومة، وأي مقاومة، والمقاومة الإسلامية بالذات.
وهي ضريبة جديدة يدفعها لبنان من دمه ومقومات حياته.
لقد دفع ضريبة الدخول أو الوصول إلى مدريد. وها هو يدفع ضريبة الخروج الإسرائيلي منه.
وهو في العين الإسرائيلية “مقاوم” طالما أنه لا يرفع يديه مستسلماً ثم يشارك في حربها لإجبار سوريا على الاستسلام.
وليس أمام لبنان خيار: فباب السلام مغلق، وليس ثمة غير سلم الخدم، أي اتفاق غزة – أريحا، هذا إذا ما قررت إسرائيل أن تفتحه له.
وحده الصمود قد يفتح في المستقبل باباً لتسوية مقبولة.
وأول شروط الصمود تحمّل ضريبة الدم وهي سورية بقدر ما هي لبنانية، بل هي عربية حتى لو أنكر بعض العرب انتسابهم إلى شرفها التليد.