آن للعرب أن “يرتاحوا” من هم الصراع مع النفوذ الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً وأنهم – بالمعنى الحكومي والرسمي – لم يخوضوه أبداً!
الادعاءات وحدها كانت عظيمة، ولعلها كانت تضخم لكي تبرر الخيبة والتفاهة والهوان.
و”انسحاب” العرب من هذا المسرح الذي لم يدخلوه أصلاً هو عامل إيجابي، إذ أن ادعاء الوجود يشوش ويشوه صورة المعركة التي تخوضها “الوطنية الأميركية” ضد محاولات “الهيمنة الأجنبية” على “القرار الأميركي المستقل”!!
من لم يقاتل الصهيونية هنا، ولم يحقق نجاحاً في مواجهة مشروعها السياسي العسكري – الاستيطاني الذي يهدده في بيته ووجوده على أرضه وفي مصيره كله لن يقاتلها في الميدان الأصعب، وحيث هو أشد ضعفاً بما لا يقاس وهي أعظم قوة منها في أي مكان.
و”مؤتمر السلام” واحدة من المعارك الأميركية الكبرى.
إنه شيء آخر غير “المؤتمر الدولي” الذي رأى فيه “العرب” ذات يوم صيغة تحفظ ماء وجههم وهم يسلمون بالكيان الصهيوني.
لقد انهارت ركائز ذلك المؤتمر – الأمنية مع انهيار المعسكر الاشتراكي واندثاره، ثم مع إحكام القبضة الأميركية على أوروبا التي كانت تحاول استكمال “تحررها” بتوحدها، وأخيراً مع انفراط العقد العربي وتشتت أطرافه بين مهزوم بالجملة ومهزوم بالمفرق وصولاً إلى “تهريب” القضية الفلسطينية وتفكيكها بحيث يمكن توزيعها على أهل الداخل وأهل الخارج في المنظمة أو في الأردن أو في أرض الشتات وعواصم القرار.
المؤتمر المطروح صيغة بحت أميركية لسلام أميركي بين عرب موالين للولايات المتحدة الأميركية أو (أقله) غير معادين لها، وبين إسرائيليين يدينون بأسباب قوتهم للدعم الأميركي الهائل والمتصل ولا يستطيعون الخروج على إرادة واشنطن متى حزمت أمرها.
يقول وزير الخارجية فارس بويز، العائد من “مركز العالم” إن النكتة المتداولة الآن في أوساط الأمم المتحدة بنيويورك تقول:
“كانت واشنطن معتادة على ثلاثة أنواع من الأجوبة هي: نعم، لا، إننا ندرس الموضوع… أما اليوم فهي تتوقع واحداً من أجوبة محددة ثلاثة هي: نعم، نعم سيدي، نعم وعلى الفور”.
المؤتمر إذن صيغة أميركية لتسوية الصراع المزمن في منطقة هي كغيرها من أرض الله الواسعة، بعض المدى الحيوي للقوة العظمى الوحيدة في الكون، حتى إشعار آخر.
والمؤتمر يعقد بالتوقيت الأميركي،
لا العرب الضعفاء أكثر مما يجب يريدونه الآن، وبالشروط التي تمليها الأوضاع التي هم عليها بعد هزيمتهم في الخليج، وبعد انهيار حليفهم العظيم، الاتحاد السوفياتي،
ولا الإسرائيليون الأقوياء بأكثر مما يجب يريدونه الآن، وبالشروط التي يفرضها عليهم النصر الأميركي الباهر، على المستوى الكوني، من موسكو إلى بغداد مروراً بصنعاء والجزائر… خصوصاً وإنه نصر لم يشاركوا فيه ومنعوا من استثمار نتائجه، بل إن بعض هذه النتائج قد ألغى وظيفتهم الاستراتيجية في المنطقة (والعالم) وأسقط مبررات مشروعهم الإمبراطوري الذي صوروه ذات يوم وكأنه “نموذج مصغر” أو “ملخص” للغرب (الأوروبي ثم الأميركي) في الشرق.
على إن العرب تمكنوا حتى الآن، وبفضل حكمة الرئيس حافظ الأسد وحسن قراءته للتحولات المذهلة التي ترج الكون، أن يسلكوا السلوك الأسلم تجاه هذا المؤتمر الأميركي: فهم قد قالوا أنهم ذاهبون إليه، متساهلين، في شروطهم المعلنة، تاركين للإسرائيليين شرف نسفه وإفشاله وبالتالي مواجهة صاحب الرعاية الأميركي، أما نجاح المؤتمر فلا يمكن أن يتحقق إلا بالعرب.
إن العرب أضعف من أن يتحملوا نتائج إفشال مؤتمر يدعو إليه جورج بوش،
.. والإسرائيليون أقوى، في تقديرهم لأنفسهم، من أن يوفروا أسباب النجاح لمؤتمر سيأخذ منهم بعض ما كسبوه في حروبهم السابقة إضافة إلى “الربح الفائت” الذي كانوا يتوقعونه من “حرب الخليج”.
.. والأميركيين أعظم شعوراً بذاتيتهم، وبعدم حاجتهم إلى حلفاء أو وكلاء أو متعهدين من الباطن، من أن يسلموا بحق أي طرف في مقاسمتهم غنائم نصرهم التاريخي الذي تحقق لهم بأسرع واسهل مما توقعوا وبكلفة دفعها… الآخرون!
وإسرائيل تحاول الحفاظ على موقع “الشريك” وتقاتل حتى لا تتساوى مع العرب الضعفاء والمهزومين في الماضي والحاضر والمستقبل، وأمامها وحدها فكيف إذا كانت هي الرديف أو الحليف الثانوي لأقوى قوة في الأرض؟!
من هنا هذا الاندفاع المحموم في بناء المستوطنات واجتثاث الفلسطينين من القدس العربية وجوارها، ومن الجولان السورية، وإخراج مخططات كانت مطوية لجنوب لبنان ببشره وارضه ومائه،
ومن هنا إطلاق طيرانها الحربي ليجوب الآفاق العربية توكيداً لسيادتها “في السماء كما في الأرض” برغم الوجود الأميركي العسكري، وبرغم المشروع السياسي الأميركي الجاري العمل لتنفيذه.
مرة أخرى: إنها حرب أميركية – إسرائيلية،
ولا يعني هذا أبداً أن ليس للعرب فيها دور، خصوصاً وإنها تجري على أرضهم أو حول أرضهم ومستقبلهم فوقها،
بل المقصود إن الدور العربي ليس موعده اليوم وليس في قول نعم أو لا لمشروع المؤتمر الأميركي لتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي،
فالمؤتمر أميركي وأسباب فشله إسرائيلية أما شروط نجاحه فعربية،
إذ أن العرب هم الطرف الذي “سيعطي”، بالنتيجة ، بغض النظر كم “سيعطي”، والإسرائيلي هم الذي “سيأخذ” حتى لو لم “يأخذ” بقدر ما يريد أو يحتاج لمشروعه الإمبراطوري!
وشرط القوة أن يحتفظ العرب بكلمتهم إلى اللحظة الحاسمة… إن كان في هذا المؤتمر لحظة حاسمة.