من الصعب تجاهل المفارقات التي كانت تضخها الأخبار طيلة ليل أمس:
ففي واشنطن كانت سوريا بشخص وزير خارجيتها تخوض جولة جديدة فائقة الأهمية في “حرب المفاوضات” من أجل الأرض كمدخل إلى “السلام”،
وفي صحراء الموت والخيبة التي “تفصل” العراق عن الكويت كان صدام حسين يثير الغبار ويطلق صيحات الحرب (ولا حرب) من أجل التفاوض لإنقاذ نظامه، ومرة أخرى على حساب وحدة التراب الوطني لبلاده وسلامة العراقيين.
في واشنطن سجلت سوريا نقطة أخرى لصالحها، حين دخل وزيرها مسلحاً بالموقف الواضح والقوي البيت الأبيض، حيث حظي للمرة الثانية خلال عام واحد بلقاء استثنائي مع الرئيس الأميركي (ومعه أركان إدارته بمن فيهم نائب الرئيس آل غور)،
فدمشق أصرت، ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق “العملية السلمية” عبر مؤتمر مدريد، على أن تلعب واشنطن “دور الشريك الكامل” والضامن والراعي و”الوسيط النزيه”، حتى لقد بدا وكأن سوريا تفاوض الولايات المتحدة الأميركية أكثر مما تفاوض إسرائيل، بكل ما لهذه الحقيقة السياسية من دلالات…
ولقاء البيت الأبيض، أمس، جاء دليلاً إضافياً وحاسماً على نجاح الجهد السوري ليس فقط في تحميل الإدارة الأميركية مسؤوليتها المباشرة عن العملية السلمية، بل أيضاً في استثمار هامش التمايز في المصالح بين واشنطن وتل أبيب لتحسين شروط “المفاوض العربي الوحيد”، برغم التهالك الفاضح في مواقف معظم الأنظمة العربية على “السلام الإسرائيلي” بغير قيد أو شرط.
ولولا قوة الموقف السوري وصموده وحسن قراءته للتحولات الدولية، عموماً ، ولمواطن الضعف في الموقف الإسرائيلي (ومعظمها كامن في الداخل)، لما أمكن تحقيق هذا الاختراق (ولو المحدود) حول مفهوم السلام بين الإدارة الأميركية وبين الحكومة الإسرائيلية التي نجحت من قبل في الحصول على تنازلات مجانية مريعة من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ثم من النظام الأردني، قبل الحديث عن عطايا أمير المؤمنين في المغرب الأقصى وحكام أقطار الخليج في مهد هوية العرب ودينهم الحنيف.
وبينما تمكنت إسرائيل في السابق من تسخير الولايات المتحدة لمباركة اتفاقات إذعان حصلت عليها من أطراف عربية باللعب على التناقضات والمكايدات الشخصية فإن القيادة السورية استطاعت أن توظف التمايز في المصالح بين الولايات المتحدة (والغرب عموماً) وبين إسرائيل لصالحها، مما عطل أو أضعف الضغط الإسرائيلي عليها بالموقف الأميركي، ومنحها فرصة التقاط الأنفاس بعد الانهيارات في المواقف العربية انتظاراً لتحرك التناقضات بين أميركا وإسرائيل كما داخل الكيان الصهيوني وتبلورها كقوة ضغط من أجل التسوية المقبولة.
فليس أمراً ثانوياً أن تعيد الإدارة الأميركية التزامها لسوريا بكل الضمانات والتعهدات التي قدمتها لها عشية مؤتمر مدريد، ومن أجل القبول به، ثم خلاله، ثم بعده، وأن تستمر تقريباً بغير تراخ وبغير تبديل، وبرغم تبدل الإدارة، وبرغم الضغوط الإسرائيلية التي بلغت حد التشهير الشخصي بكلينتون وعائلته وأهله الأقربين.
في المقابل يهدد صدام حسين “خصمه” الأميركي بأن يجدع أنفه، مرة أخرى!
وهو يستخدم قضية محقة من أجل غرض شخصي ينسف تلك القضية كلياً: إنه يتذرع بجوع العراقيين، وهو السبب فيه، للمطالبة بإعادة الاعتبار إلى نظامه والتعامل معه… وهو مصدر نكبات العراقيين جميعها.
بداية، هي واحدة من جرائم التاريخ الأشد فظاعة أن يفرض حصار التجويع على شعب العراق، بذريعة “إزعاج” حاكمه الذي قاده إلى الدمار والضياع والتمزق،
إن الغرب، بالقيادة الأميركية، إنما يكمل مهمة صدام حسين ويفرض على شعب العراق عقوبتين كلاهما أقسى وأسوأ من الأخرى: يبقي على الطاغية ويمزق البلاد ويجوع شعبها الذي ضاع عليه الحاضر والمستقبل.
وهكذا تتحول حماقة صدام حسين (المكررة) إلى وسيلة جديدة لابتزاز العرب جميعاً وإلحاق المزيد من الأذى والضعف بحقوقهم، يستوي في ذلك المشرق والمغرب، الجزيرة والخليج و”دول الطوق”، وبالذات ما تبقى منها: سوريا ولبنان،
ولذلك يصبح مشروعاً التساؤل عن توقيت هذا التهويل التافه بحرب لا يقدر عليها صدام حسين ونظامه، وعن وظيفته الأصلية: هل هو موجه ضد حكام الكويت فعلاً أم ضد ما تبقى من صمود عربي في وجه المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي؟!
وتهديد صدام حسين بنحر العراق، مرة أخرى، لن يزعج الغرب، بل هو سيزيد من عمق المأساة العربية، ومن تفاقم اليأس من المستقبل العربي،
أما النجاح في “حرب المفاوضات” الذي حققته وتحققه سوريا فهو يبقي على جذوة الأمل مشتعلة: إن الهزيمة ليست قدراً محتوماً على العرب في كل أرضهم، وبالإمكان حماية مساحة ما من الحاضر من أجل مستقبل ما، غير الذي تعده لهم إسرائيل، ولو بعد حين.