سخيفة إلى حد الابتذال هي الأسئلة “العربية” عن حجم العقوبات التي “ستفرض” ابتداء من الغد على الجماهيرية العربية الليبية،
إنها من نوع توجهك بالسؤال الشخصي تلتقيه مصادفة: هل صحيح أن والدك كان تاجر مخدرات؟! أو هل صحيح ما يشاع من أن أختك قد “ذهبت خطيفة”؟!
المسألة ليست فنية، ولا مجال للحياد أو للامبالاة أو لادعاء البراءة (المتأخرة) من تطرف معمر القذافي أو من آرائه الحادة والغريبة والمستهجنة أحياناً.
إننا جميعاً نسبح في دمنا،
إننا جميعاً نكاد نفطس في هذا “الصهريج” الذي حُصرنا فيه مشيعين بأنواع من اللعنات، تهال علينا الافتراءات والشتائم وأصناف التحقير والقاذورات، فإذا ما اطمأن واحدنا إلى أن لسانه ما زال يتحرك، ساهم في الشتم والسب أو أنه اتخذ وقار الخبير الأجنبي وانطلق يحلل الأهداف والغايات المرجو تحقيقها والتي لا بد ستكون، أليس القرار الأميركي قدراً عربياً؟!
وليس مهماً أن يتوج السيد الأميركي قراره ضد ليبيا وقيادتها وشعبها بـ “عاصفة صحراء” جديدة، تشكل حملة صليبية تاسعة (بافتراض أن الحرب ضد العرب كانت الثامنة، على حد توصيف البطل الشهيد – الحي الفريق سعد الدين الشاذلي)،
فصواريخ المهانة والاذلال تقصف الكرامة العربية كل لحظة، ومنذ شهور، وهي أشد فتكاً من صواريخ كروز، وأكثر دقة من آخر مبتكرات الآلة الحربية الأميركية الجهنمية الموجهة بالليزر، وهي أسرع وصولاً من تلك التي تنقلها عبر القارات القلاع الأميركية الطائرة “ب – 52”.
ليس في الجسد العربي مكان لجرح جديد،
لقد نزف الدم إلا أقله، وتلاشى الإحساس بالذات، أو يكاد، وثمة من يستخرج من مكامن الذل الرايات البيضاء لكي يرفعها إشهاراً لبراءته من دم هذا الصديق،
كأنام تأتيك السلامة إن أنت ساهمت في اغتيال أخيك،
كأنما تتبقى لك إرادة أو مكانة أو دور إن أنت مالأت الأجنبي على أهلك ورشوته بأن تتنازل له عن بيتك بشرط أن يستبقيك فيه فلا يشردك في الطرقات.
إنهم يعاقبون تاريخك كله،
إنهم يحاكمون كل طلقة رصاص، بل كل طعنة رمح وكل ضربة سيف وجهتها إلى غاز أو محتل أو طامع في أرضك، ماضياً وحاضراً. إنهم يستخرجون أجداث أجدادك فيعلقونها على أعواد مشانقهم تأديباً لأجيالك الآتية.
إنهم يحاكمونك بمفعول رجعي عن كل الهزائم التي مني بها كل سمسار أو قواد غربي أو “مستوطن” أسود القدمين والذمة والغرض،
إنهم يعاملوننا وكأننا “حمولة زائدة” على سطح الكرة الأرضية، يستحسن أن نخلي مكاننا كأصحاب أحلام لمن يرتضي أن يكون منا حامياً لمصالحهم ومستودعاً لبضائعهم ومبتكراتهم الاستهلاكية الحديثة!
ليس الأمر أمر القذافي أو المتهمين الليبيين بتفجير طائرتين غربيتين،
فبدعة اختطاف الطائرات المدنية وإسقاطها وقتل ضحاياها هي بدعة أميركية،
ودماء آخر ضحايا للإرهاب الأميركي المكشوف ما تزال تلون وجه الخليج العربي بالنجيع الإيراني.
وليس الأمر يتعلق بشعب ليبيا وحده، فلا يحتاج الثلاثة ملايين عربي في ليبيا إلى هذه التظاهرة العسكرية – الاقتصادية – السياسية الغربية التي يحتشد فيها الغرب كله،
الأمر إخضاع العرب، كلهم وفي مختلف ديارهم، مرة وإلى الأبد، للغرب إياه، الصليبي سواء أجاء من فايكنغ الشمال الأوروبي أو من “الغول” أو من القبائل الجرمانية، أو جاء مسلحاً بالأساطير التوراتية كما يهود الشتات في شرقي أوروبا، او كما يجيء هذه المرة تحت الراية الأميركية التي تخفق وحدها فوق أربع جنبات الأرض، ولو إلى حين.
إنها الحرب على العرق، على الجنس، على سمرة البشرة، على سواد العينين، على العباءة، على الكوفية والعقال، على أمجد ما فيك وأبأس ما فيك،
إنها الحرب على الشعر، على القافية والوزن والتفعيلة، وهي الحرب على الشجن في غنائك،
إنها الحرب على أم كلثوم وفيروز، على سيد درويش وأسمهان، على محمد عثمان ووديع الصافي، على محمد عبد الوهاب ونور الهدى، على صباح فخري وفايزة أحمد،
إنها الحرب على أمين الريحاني وجبران خليل جبران، على طه حسين ومحمود عباس العقاد، على توفيق الحكيم ورفاعة الطهطاوي، على الشيخ محمد عبده وجرجي زيدان، على الشيخ رشيد رضا وجمال الدين الأفغاني،
إنها الحرب على الورد في لبنان والياسمين في دمشق والعرار في نجد والفل في مصر وزهرة الأكاديا في العراق ورائحة الارز في أطلس المغرب الأقصى.
إنها الحرب على كل ما تؤمن فيه ويعطي لحياتك معنى، سواء في الأرض أو في السماء.
إنها حرب تستهدف “إقناعك” بأنك لا أحد، لا شيء، لا تعني أحداً ولا يهتم لأمرك أحد، لا يفرح أحد بوجودك ولا يحزن أحد لغيابك،
إنها حرب على الحب والجمال والخير. حرب على أمك وأختك وزوجتك وطفلك الرضيع.
إنها حرب على حبك الأول وحبك الأخير، حرب على أحلامك كما على طموحاتك كما على رغيف خبزك.
إنها حرب على الجامعة في ديارك والمدرسة، على العلماء من أجيالك الجديدة والأطباء والمهندسين،
إنها حرب على كل ما هو حي ونابض في وطنك الهائل الاتساع.
إنها حرب تجويف لشخصك، تعيش بعدها ولا تحيا، تأكل – إذا ما تيسر الطعام – ولا تنتج، تستوطن الخوف والذعر والإحساس الأبدي بالمهانة.
إنها حرب على أول مصنع بنته الأيدي العربية بعرقها، وآخر مصنع حلم بإنجازه شاب عربي استطاع اقتناص فرصة العلم حيث العلم، ولم يقبل أن يبيع عقله ووطنه فعاد ليبني ما ينفع به أهله.
إنها حرب على الشعارات والرايات والآمال التي حملت وناضلت من أجل تحقيقها كالسيادة والاستقلال والتحرر من الظلم والظلام والتخلف المهين،
إنها حرب على تطلعك إلى العدل والعدالة، داخل وطنك وخارجه، بقدر ما هي حرب على القانون والحق ذاته.
كيف ترد على هذه الحرب الكونية التي لم توفر سلاحاً إلا واستخدمته ضدك وأنت في الدرك الأسفل في ضعفك وانسحاقك بالهزيمة؟!
ترد بأن تكون أنت أنت، لا ما يريده لك ومنك “الآخر”،
ترد بأن تؤكد أن بلدك هو بلدك، وليس مجرد مستعمرة للولايات المتحدة الأميركية.
ترد بأن تقاتل قدر الطاقة، حتى لو كنت واثقاً من استحالة النصر.
ترد بأن تقول “لا”، وتدخر هذه الكلمة المقدسة لكي تورثها لأبنائك، لعلهم يعوضون ما قد بسبب الفارق المفزع في موازين القوى.
هل هي كلمات بلا معنى، تضج بالوجدان والعاطفة ولكنها بعيدة عن الواقع؟!
هل هي خارج الحساب و”الإحداثيات”؟!
أجل هي كذلك… وإذا عجزت عن أن تلوي ذراع الجلاد فهل أقل من ألا تقدم يديك طوعاً للقيد، وألا تحني رأسك وتدخله في حبل الموت؟!
هي الحرب تفرض عليك فرضاً، وتدهمك في بيتك دهماً، فهل أقل من أن تصرخ احتجاجاً وتشهد العالم إنك – إن عز الانتصار – ضحية ظلم فاضح؟!
هل أقل من أن تطلق، لحظة الاستشهاد، الشهادتين؟!
هي الحرب حتى لو تم ابتداع “تسوية” تبدو مستحيلة،
هي الحرب عليك كعربي حتى لو سلم معمر القذافي رأسه للمقصلة، وارسل أبناء شعبه لكي يفترسهم الوحش الأميركي، وفتح بلاده لكي تجتاحها مرة أخرى جيوش الحضارة الغربية التي تسخر الأساطيل لضمان حقوق الإنسان!
وهي حرب ستستمر بعد ليبيا، وستنتقل إلى من بعدها على قائمة “المشبوهين” و”المطلوبين” ممن قالوا ذات يوم: أرض العرب للعرب، نفط العرب للعرب، مستقبل العرب للعرب،
إنها حرب على جمال عبد الناصر في لحده لأنه تجرأ فقال ذات يوم: ارفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الذل والاستعباد.
إنها حرب على عمر بن الخطاب الذي هتف ذات يوم، قبل ألف وأربعمائة سنة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!
إنها حرب على الشمس والهواء والينابيع، على المآذن والكنائس وهتاف “الله أكبر”، والبقاع المقدسة في هذه الأرض التي شرفت بالرسالات السماوية جميعاً.
وهي حرب ستستمر حتى نصبح جديرين بشرف الانتماء إلى هذه الأرض!