طلال سلمان

على الطريق حق النقض والولادة الجديدة!

هل يسمح العصر الإسرائيلي الجديد ببعض الكلام العربي القديم؟!
هل حُرّم لفظ “فلسطين”، وسحبت هذه الكلمة السحرية التي تختزن نضال أمة من التداول؟! أم ما زال مسموحاً استخدامها ولو كتعبير مهجور أو كتذكار قديم أو كأيقونة مقدسة تحتضن مجد الماضي بغير أن يكون لها تأثيرها على الاتفاق – الإعجاز الذي ألغي الحاضر والمستقبل؟!
في أي حال فلا لغة بلا فلسطين، لا في السياسة ولا في ما هو أبقى من السياسة وأعظم أثراً.
وفلسطين أغلى من العمر، يرخص لمجدها دم الشهداء والأحلام، فكيف يمكن أن يختزلها “حاكم” فرد، أو يقرر مصيرها في أمتها، أو ربما مصير أمتها، مجموعة من السماسرة تلطوا بالعتمة لينجزوا صفقة مع العدو الإسرائيلي رهنوا خلالها المستقبل العربي برمته؟!
فلسطين أقوى من الحكام جميعاً وابقى، هي تصنعهم وقد تلغيهم، وهم أضعف من أن يستطيعوا تقزيمها بحيث تغدو بحجم واحدهم، أو حتى بحجم مجموعهم، كما إنهم أضعف من أن يقدروا على إلغائها أو طمسها أو شطبها من ذاكرة التاريخ أو من دائرة الفعل أو من وجدان أهل الأرض والتاريخ والفعل في هذه الدنيا العربية.
باسم فلسطين قفز إلى سدة السلطة عشرات المجهولين فغدوا حكاماً. كان بينهم من حمله دمه المسفوح على أرض فلسطين، وكان بينهم مغامرون وأدعياء، وكان ثمة تجار أراض وتجار دماء، كما كان بينهم متطلعون إلى مكانة في التاريخ لا تعطيها إلا فلسطين، ولم ينلها على امتداد القرون إلا صفوة ممن صنعت فلسطين تاريخهم.
وفلسطين كانت قوية دائماً بالناس، بسطاء الناس، كل الناس، ملايين الناس، مئات الملايين من الناس. هي مصدر الكبر، تعطي من يأتيها فيغدو كبيراً وتكبر به.
حتى حين جاء زمن السلاح فإن بسطاء الناس هم الذين حملوا السلاح. تركوا أهلهم وطموحات شبابهم وارتحلوا غليها. ولقد أمدهم إيمانهم بأنهم يمثلون عموم الأمة بالقوة اللازمة لاقتحام القلعة الحصينة، إسرائيل، ومن ذلك الإيمان جاءتهم الثقة بقدرتهم على دحرها.
هل تنتهي فلسطين – القضية بخطاب وداعي من ياسر عرفات يترحم فيه على الشهداء ويقرأ فيه الفاتحة على الأحياء، ثم يذهب كل في سبيله؟!
هل يطوى التاريخ الشخصي لملايين الملايين من الناس باتفاق – تحالف بين إسحق رابين وياسر عرفات، وكأنما كان هذا بالذات هدف “الجهاد”؟!
هل يستطيع أي “قائد” أو “حاكم” أن يقرع جرس الانصراف للذين نذروا أنفسهم وأبناءهم من أجل فلسطين؟!
هل كان كل أولئك الملايين من “المرتزقة” لحساب الغير، وقد قرر صاحب الأمر أن يحل “فرقتهم الأجنبية”، فيعود كل من حيث أتى وفي يده ثلاثين من الفضة؟!
هل تعوض أريحا أعمار من أفتوا حياتهم على طريق فلسطين؟!
وهل “يملك” ياسر عرفات شخصياً في فلسطين ومنها أكثر مما يملك الذين ذابوا فيها فصارت ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ولم يعد لهم خارجها وجود؟!
ليس هذا من الشعر، ولا من الوجدانيات، ولا يندرج خاصة في باب الرثاء ءوندب الماضي.
إنها أسئلة مدببة موجهة إلى المستقبل.
فالحديث عن فلسطين هو حديث عن الملايين، عن مئات الملايين. عن الناس، عن بسطاء الناس. إنه حديث عن “العربي” كمواطن وكصاحب قضية وكصاحب حق مطلق في أن يناقش ما يتصل بحاضره وبمستقبله، وفي أن يشارك بالقرار، ولو من موقع الرفض، فكلمة “لا” هي أيضاً قرار، بل إنها في لحظات معينة تجسيد لأعظم القرارات وأقدسها.
وأبشع ما نواجهه حالياً، وبينما الصفقة تكاد تنجز والعمل لتسويقها وتبريرها على قدم وساق، إن “الناس” غائبون تماماً عن المسرح ومغيبون عن دائرة الفعل.
كأنما انعدم وجود المواطن العربي.
كأنما تحول المائتا مليون مواطن إلى حكام، يسمعون بآذان الحكام وينطقون بألسنتهم ويرددون كالببغاوات خطابهم الرسمي!!
كأنما تحولت فلسطين إلى مقبرة المواطن العربي بينما كانت على امتداد أجيال قيامته وبعثه والنشور.
كل قطر يختزله حاكمه فإذا قال “نعم” فمعنى ذلك أن كل ملايين القطر قالتها بلسانه الملكي… وطالما أن كلمة “لا” محظورة، فكأنما الأمة جميعاً موافقة على الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني؟!
من يستطيع ارتكاب جريمة تزوير بهذه الفظاعة؟!
حتى لو قال نصف الفلسطينيين “نعم” وامتنع على نصفهم الآخر القول، فإن هذه “النعم” تعكس اليأس والتعب أكثر مما تعكس المطلب والإرادة والحق.
بل حتى لو قال كل الفلسطينيين “نعم” يبقى لأي عربي، في أي أرض عربية، حق النقض، فلكل عربي نصيبه في فلسطين، اليس لكل بقدر ما أعطى؟!
وكيف يكون لأي يهودي من أقصى الأرض “الحق” في فلسطين، وهو يجيء ليأخذ، ويمنع هذا الحق عن العربي الذي أعطى ويعطي وسيظل يعطي وهو لا يريد من فلسطين إلا فلسطينيتها، أي أن تبقى معقد أمله ورايته وهو يكافح لتحقيق ذاته ولتثبيت حقه في أرضه وفي تقرير مصيره فوقها؟!
حق النقض الآن مقدس كما فلسطين.
فعبر حق النقض تتم إعادة استيلاد “المواطن العربي”.
لقد ألغاه الحاكمون لكي يمكنهم أن يتخلصوا من عبء فلسطين في غيابه، فلو أنه ظل حاضراً لبقيت فلسطين وذهب الحاكمون!
عبر حق النقض يولد المواطن العربي ومعه “لغته”.
وعبر حق النقض يتحرر من “الخطاب الرسمي” وينزع عن وجهه القناع الذي ألبسه إياه حكامه ليتماثل معهم، ويسقط عن لسانه هذه اللغة السمجة التي تصوّر التغير مستحيلاً وتجعل الثورة خرافة وترى في الإرادة الإنسانية تجديفاً على “العزة الإلهية” المسبغة على النظام العالمي الجديد.
وأنى للمواطن العربي أن يولد أو أن يعيش وهو محاصر سلفاً بهذه القائمة الطويلة من المحظورات والممنوعات: فالوضع الدولي قدر، والهيمنة الأميركية المطلقة قدر، والانقسام العربي قدر، والهزيمة العربية قدر، وهذه الأنظمة العربية قدر، وبالتالي فالاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني هو قدر الأقدار هذه مجتمعة؟!
وقد لا يستطيع المواطن العربي أن يمنع، اليوم، التوقيع على اتفاق الإذعان هذا، الذي من شأنه أن يلغي فلسطين،
ولكنه بتمسكه بحقه في النقض إنما يفرض وجوده ويستبقي من فلسطين ما هو ضروري لاستكمال ولادته واصطناع قدره الخاص.
لم تكن لكلمة “لا” القداسة التي لها اليومز
خصوصاً وإنها لحظة ميلاد المواطن العربي، لحظة ميلاد الديمقراطية العربية، لحظة ميلاد الغد العربي الموعود عبر فلسطين ومعها.
أما ذلك الشبر في اريحا فمقبرة اليوم والغد، مهما كانت “حسنات” التحالف الإسرائيلي مع “الحاكم” الفلسطيني الفرد الذي عجز دائماً وسيعجز اليوم عن اختصار فلسطين بشخصه.

Exit mobile version