طلال سلمان

على الطريق هموم ما بعد المجلس الأعلى..

الواجهة برّاقة، كواجهات المحلات المزركشة بزينة الميلاد…
لكن “القيادات” اللبنانية التي ذهبت إلى اجتماعات “المجلس الأعلى” متفرقة و”متخاصمة” لم تعد أحسن حالاً وإن كانت ستلتزم بمد “الهدنة” شهراً أو شهرين وحتى يبين الخط الأبيض من الخيط الأسود في الأزمة الأخطر – قليلاً – من أزمات علاقاتهم الشخصية.
وبينما تتكامل صورة المجلس الأعلى اللبناني – السوري كمؤسسة لها أنظمتها وأجهزتها، تشحب صورة الدولة في لبنان، وهي دائماً تحت التأسيس، إذا ما نظر إليها من خلال “قمتها” كما من خلال حكومتها وإدارتها، والأخطر : من خلال الخواء السياسي العام الذي يجسّم الخلافات ” الرئاسية” ويقدمها وكأنها الخبر الوحيد عن هذا البلد الأمين والهم الذي لا هم غيره لأبنائه الميامين!
وشتان ما بين هموم القيادة السورية وهموم “القيادات” اللبنانية في ذلك اللقاء الاستثنائي للمجلس الأعلى، وإن كانت هذه قد غدت بعض تلك فأضافت ثقلاً إلى أثقال بدل أن يحمل لبنان نصيبه، على الأقل، إن هو لم يساعد في تعزيز الصمود والقدرة على المواجهة التي تنهض بأعبائها دمشق الأسد.
لكل رئيس لبناني منطقه الخاص وعرضه الخاص وتوصيفه الخاص للوضع المأزوم داخلياً، ولذا فلا بد من موعد خاص ولقاء خاص لكي يبث شكواه طالباً “تحريره” من التزامه بالتضامن وإطلاق يده وإلا فهو غير مسؤول عن الفشل الحتمي والداهم!
يمكن لأزمة الشرق الأوسط أن تنتظر، ويمكن لمفاوضات التسوية أن تتأخر، ويمكن تأجيل المواجهة مع مخاطر اتفاق غزة – أريحا والانهيار المأساوي في الموقف الفلسطيني “الرسمي”، فأما المرسوم الفضائي فلا يجوز أن ينام في الأدراج، وأما تعيين المحاسيب والمستشارين سفراء في الدول الكبرى فضرورة استراتيجية، وإما تمرير مشاريع الشركة العقارية في وسط بيروت والضواحي فلا يتحمل أي إرجاء وإلا “حمضت”، وإما تقنين نهب الأموال المفترض تخصيصها لمصرف الإسكان وتجييرها لمصلحة “إيراد” فخدمة وطنية جلى يتحمل المجلس النيابي المسؤولية التاريخية عن إجهاضها، وأما زيادة رأسمال شركة طيران الشرق الأوسط بطريقة مخالفة للقانون لترتيب صفقة جديدة للمشتري الأوحد فمسألة حيوية لا تجوز المناقشة فيها!
وبالتأكيد فإن الوقت الثمين الذي استهلك في استعراض مباذل الحكم اللبناني يزيد عن الوقت الذي نالته الموضوعات الخطيرة التي كان يفترض أن يتفرغ لها وأن يقرر فيها المجلس الأعلى.
ثم هناك مسألة “طول رقبة المعارضة” للحكومة، وخبرة سواقي التاكسي في تقدير ثروات الأثرياء، بغض النظر عن مصادرها، وتسفيه أي انتقاد لمسلك أو لتصرف غير قانوني وتصويره بأنه خروج على الوطنية وضرورات الصمود القومي.
ومع أن أحداً لا يعرف على وجه الدقة كم ينبغي من الطول في الرقبة لكي يصبح جائزاً الاعتراض والقول برحيل الحكومة، إلا أن التسلح بالأرقام المزورة والوقائع المزورة لا يطيل رقبة الحكومة أو عمرها ولا يحسن من سمعتها.
ومؤسف أن تكون “الهوبرة” و”العنتريات” وتعابير “الردح” والكلمات النابية ضد أي انتقاد أو اعتراض أو مساءلة أو حتى استفسار، قد قصرت عن حماية البلاد وعن منع تفجير سياسي خطير كالذي استهدف بيت الكتائب المركزي في بيروت ومعه التحولات الواعية التي نقلت الحزب من سجنه الطائفي القديم إلى أفق الاعتدال والعيش الوطني الرحب.
ومؤسف أكثر أن سياسة الهيمنة بالمال أو بالسلطة أو بتسخير السلطة لخدمة المال وهو ينهش الدولة، أرضاً وشعباً ومؤسسات، لا تعزز الوحدة الوطنية ولا تصلب الإرادة الوطنية ولا تحمي المناعة الوطنية في وجه مشروع الاجتياح الإسرائيلي ومخاطره السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية غير المحدودة.
إن المجلس الأعلى يوفر فرصة تاريخية لتقديم نموذج راق لعلاقات صحية ولتكامل تدريجي بين “دولتين شقيقتين” تجمعهما المصالح بقدر ما تجمعهما المصيبة، خصوصاً إذا ما تأكدت قدرته على الإنجاز وتخطي البيروقراطية والروتين والحساسيات الكيانية التي تخفي في طياتها جرثومة الوباء المذهبي والطائفي.
كذلك فهي فرصة تاريخية للبنان المهيض الجناح أن يتولى الدفاع عنه، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والإهمال العالمي، أقدر الرؤساء العرب وأحرصهم عليه وأكثرهم حنكة وصلابة: حافظ الأسد.
ولولا بعض الهنات الهينات، لبنانياً، لأمكن البلدين التوأمين أن يبلورا موقفهما الموحد وصمودهما أمام الضغوط القاسية، بينما يترنح الاتفاق الذي دُبّر بليل خلافاً للأصول وللطبيعة، بين إسرائيل وصاحب التوقيع الفلسطيني.
ومن مصلحة لبنان، قبل سوريا، أن يصل الرئيس السوري حافظ الأسد إلى لقائه الرئيس الأميركي بيل كلينتون وهو قوي بصمود “الشعب الواحد في دولتين” وقوي بمطلبهما الحق في الوصول إلى تسوية مقبولة، بينما الذين انبطحوا طلباً لأي اتفاق وبأي ثمن لا يستطيعون الآن النهوض بأعباء ذلك الاتفاق البائس.
ويفترض المنطق التحضير لما بعد قمة جنيف، لأنه سيكون مختلفاً جداً عما قبلها، وقد يكون أعلى كلفة وأقسى وطأة بالمعنى النفسي كما السياسي.
لذا فلا هم يجب أن يطغى على الاستعداد لما يدبر لنا أو يعد للمنطقة بأسرها.
وبالنسبة للبنان فلا مناص من إعادة التوكيد على وحدة الحكم وسلامة توجهاته، وارتفاع أطرافه أو ترفعها عن الموبقات والارتكابات والمخالفات والاختلافات التي باتت أوسع من أن تتسع لها الأرض فامتدت إلى الفضاء، والتي تعددت جبهاتها وما زالت مرشحة لمزيد من التعدد إذ هي تشمل العقارات والشركات والتعيينات والتشكيلات والتطهير الأبتر ومحاولات الهيمنة الفردية أو الرأسمالية (المتعددة الجنسيات!!) على كل ما هو منتج في إطار الدولة اللبنانية التي استهلكت حتى الآن جمهوريتين من غير أن يكتمل تكوينها!
إن وحدة الحكم في لبنان ضرورة حيوية لا غنى عنها ولا بديل منها.
ووحدة الحكومة لا تقوم إلا على مشروع سياسي واضح الملامح والاستهدافات، والمشروع السياسي مستحيل التنفيذ في ظل حكومة الشخص الواحد يعاونه بعض السكرتيرين.
ثم إن هذا المشروع لا يقوم من دون حياة سياسية فعلية تعكس واقع التعدد في التيارات والاتجاهات والآراء، ودائماً في إطار الوحدة الوطنية والالتزام القومي، ولا ينجزه بضعة من الموظفين والأزلام والأتباع من ذوي الراتبين.
ووحدة الحكم تصنعها وتحميها المؤسسات واحترام الدستور والقوانين والرأي العام – وأساسه المعارضة ونقد الحاكم والاختلاف معه -، والفصل القاطع بين ما هو شخصي وخاص وبين ما هو عام، بين الدولة وبين “أصحاب الدولة”، بين المصالح الذاتية وبين الصالح الوطني العام.
وإذا كانت وحدة الحكم – وعبر مؤسساته السياسية – ضرورة حيوية دائماً، فإنها في المرحلة المقبلة شرط حياة للبنان، وضمانة لصمود سوريا وهي تخوض – باسم العرب ونيابة عنهم جميعاً – آخر الحروب (وأقساها).
ولا يقبل العقل أن يكون اللبنانيون مع سوريا في هذه المعركة وأن تكون “قياداتهم”، بخلافاتهم السياسية أو بمباذلهم الشخصية، عبئاً عليها… وعليهم بطبيعة الحال.
أعان الله الرئيس الأسد.

Exit mobile version