طلال سلمان

على الطريق حلقة جهنمية اسمها “الثقة”!

إذن هي أزمة ثقة، بداية وانتهاء،
ومن أعطى للأزمة التي تشتد حتى تكاد تنفجر وتفجر كل شيء، توصيفاً مختلفاً: هي أزمة ثقة جماعية متعددة الأطراف والأبعاد!
فهي محلية – سياسية – اقتصادية – اجتماعية فكرية، وهي كذلك محلية – عربية واستطراداً فهي عربية – عربية، وأخيراً فهي أزمة محلية – دولية، واستطراداً فهي دولية – عربية بنتائج محلية!
محلياً – مع تسليم “الشعب” بالحكم القائم كخيار بائس لا بديل له، فإنه ضعيف الثقة إلى حد انعدامها بهذا الحكم بأطرافه المختلفة.
وبغض النظر عن أشخاص الحاكمين ومباذلهم وممارساتهم وأدوار أسرهم “الحاكمة”، من الزوجات إلى الأبناء والأصهار والكناين، فلا أحد منهم قدم رؤيا أو برنامجاً للحكم أو خطة عمل غير “سحره” الشخصي ونواياه… والله أعلم بالسرائر!
على أي أساس ستكون الثقة… على أي أساس ستطلب؟ وعلى أي أساس ستعطي؟ وما الضمانة، وما هي قاعدة المساءلة والمحاسبة؟! ثم ما هي “الغرامة” أو “العقوبة” في حال الإخلال بالتعهد أو نقض الوعد والخروج على الالتزام؟!
يضاف إلى هذا إن الحكم لا يثق ببعضه البعض، لا على مستوى القمة، ولا على مستوى السفح، قبل الحديث عن العلاقة بين القمة والقاعدة – الرؤساء يتنابزون بالألقاب، يتشاتمون علناً وسراً، يشكك كل منهم بالآخر، في بيروت كما في دمشق، وربما في العواصم البعيدة، فإذا ما اتفقوا مصادفة فعلى اتهام الوزراء (كلهم أو بعضهم) والنواب (كلهم أو بعضهم) وأهل الإدارة (كلهم أو بعضهم) وتحميلهم مسؤولية القصور والتقصير!
ولعل “المفاجأة المسرحية” التي أنهى بها رئيس المجلس، ليل أمس الأول، حكاية جلسة المناقشة والثقة، تكشف عمق الأزمة على مستوى هاتين المؤسستين: فالحكومة تريد المجلس أن يجدد ثقته بها ساكتاً وبغير مناقشة، بل لعلها كانت تطمع في أن يعتذر عما صدر عن بعض النواب من اتهامات و”يمدد” لها ولايتها (باعتباره يتقن فن التمديد لنفسه كما للبلديات والمخاتير والنواطير الخ)… أما المجلس فكان يريد التشهير بالحكومة وتبرئة نفسه من كل ما يطلق ضد “الحكم” من اتهامات، ثم يهرب من تجرع كأس الثقة المرة، تاركاً “الثلاثينية” عارية في عز البرد مهددة بمصير أبناء حزرتا البؤساء أي “الموت الأبيض” دفناً تحت ركام الثلوج!
على الصعيد الاقتصادي – الاجتماعي يحاول بعض الحكم تقديم بعضه الآخر فدية أو كبش محرقة، فتارة يتم التشهير بوزراء الخدمات (المكشوفين للجمهور) ، فيرد هؤلاء باتهام وزراء الميليشيات التي صارت مافيات والتي اقتحمت الإدارة فجعلتها إقطاعيات… وفي النهاية يتم تجميع الأزمة بكل أثقالها وتلقى على كاهل مصرف لبنان ويفوض في العلاج!! وكأنه مصدر القرار وليس ضابط الإيقاع فحسب.
“عليهم الانفاق، وعليه تدبير المال اللازم للتغطية”!! هم يتجاوزون القوانين والمؤسسات، من ديوان المحاسبة مروراً بمجلس الخدمة وانتهاء بالتفتيش المركزي، فيعقدون الصفقات بالتراضي، وينفذون ما يهتمون لأمره من المشروعات “غب الطلب”، وعليه أن يؤمن سلفات الخزينة من لحم المواطن، ودائماً بذريعة إطلاق عجلة الإنتاج، وتوفير الخدمات الضرورية المؤكدة انتهاء الحرب وعودة الدولة وانبلاج عصر السلاح والإنجاز والإعمار الخ…
ومستحيل في ظل ظروف كهذه أن يتوفر مناخ من الثقة بين الحكومة – الإدارة وبين مصرف لبنن،
وطالما إن العديد من الرؤساء والوزراء (والنواب) على صلة حميمة بالمصارف (متعسرة وغير متعسرة) ، فإن الثقة المهزوزة ستمد ظلالها الوارفة إلى القطاع المصرفي ومنه إلى سائر القطاعات المنتجة، وقد تتخطى ما هو محلي إلى ما وراء الحدود.
كيف يثق مواطن بحكم يكلفه في زمن السلم والاستقرار الأمني ما لم يتكلفه في زمن الحرب؟!
من أين تأتي الثقة بحكم تصير في ظل إنجازاته ربطة البقدونس بدولار وأكثر، وكيلو البندورة بدولارين ونصف، وحزمة الفجل بحوالي الدولار، وربطة الخبز بثلاثة أضعاف ما كانت عليه في زمن الحرب؟!
أما عن الخارج فحدث ولا حرج…
الخارج يعتبر الحكم في لبنان “سورياً”، ويحجب عنه المساعدات الاقتصادية والفنية والقروض والهبات كوسيلة ضغط من أجل “تحريره من “الهيمنة السورية”.
السعودية مثلها مثل ألمانيا، والكويت مثلها مثل اليابان، والكل على خطى واشنطن، وواشنطن تنافق دمشق لبنانياً في ما هو ثانوي وتقاتلها (وتقتل اللبنانيين) في ما هو حيوي و”استراتيجي”.
وتحت عنوان “انعدام الثقة” في الحكم القائم بلبنان “يطير” الصندوق الدولي لإعمار لبنان، بقرار أميركي تنفذه السعودية بدقة نموذجية: فالمال موجود لدعم تركيا وتحصينها، وهو غزير لإنعاش الاقتصاد الروسي المنهار، و”لشراء” ما تيسر من الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، لكنه يتبخر ويختفي تماماً إذا ما طرح موضوع لبنان والمساعدة على إنهاضة مما أوقعته فيه الحرب (وقد كان للمال السعودي فيها دور مؤثر)… وكل ذلك بحجة الضغط على سوريا في لبنان، لتسهيل أمر المفاوضات المباشرة مع إسرائيل في واشنطن، ولتمرير التعاون معها مستقبلاً كما يطمح مؤتمر موسكو.
ثم إن المال السعودي (والكويتي) متوفر لشراء عقارات في الوسط التجاري وخارجه، ومتوفر للمضاربة على الليرة بالدولار والعكس بالعكس، ولكنه يتعسر إذا صار الحديث عن الدولة ومؤسساتها ومرافقها الحيوية،
وما جاء منه باسم الزفت “طار” مع أول زخة مطر وطارت معه الشوارع!
لمزيد من التفصيل: واشنطن لا تثق بباريس، وروما لا تثق ببون، وبون تتنبه أخيراً إلى أن رهائن جميع الدول الغربية قد أطلقوا إلاا رهائنها، فتعتب على واشنطن ولندن وباريس وباريس وربما دمشق وطهران، ولكنها تعاقب بيروت!
وباريس تحاول المشاغبة على التفرد الأميركي، فتلعب تارة ورقة ميشال عون، ثم تخاف من مجابهة التيار الواسع والمؤيد للطائف، فتنط إلى دمشق محاولة الدخول كشريط مضارب، وفي كل الحالات تحاول القفز من فوق الحكم في لبنان وتمنيه بالمساعدات ثم لا تدفع إلا ما يمكن إدراجه في خانة البخشيش.
على إن اليابان قد عوضت غياب الجميع: فهي قد تبرعت للبنان بمائة وخمسين ألف دولار للمساعدة على مواجهة آثار العدوان الأبيض (الثلج)،
وباختصار فإن هذه الحروب بين الداخل والخارج، والخارج والخارج، كانت تتناوب على رصيد الحكم، وهو محدود جداً، فتخصم منه، وتكشفه أمام الداخل.
وصحيح إن ثمة أهدافاً سياسية لهذه الأزمة الاقتصادية الخانقة،
ولكن الصحيح إن للحكم دوراً كبيراً في ترك هذه الأزمة تتفاقم، كما أنه بممارساته قد زاد من مخاطرها وأضعف من دقرته على مواجهتها، وبالتالي فهو سلح بها الخارج ضده، وهكذا بات الشعار: لا نعطي لحكم غير كفؤ وغير مؤهل، وبالتالي غير موثوق.
أي بات ممكناً تمويه الموقف السياسي الخارجي بسوء الإدارة الداخلية،
وغير مقنعة على الاطلاق كل الذرائع والحجج التي تعطى لاستبقاء مجموعة من العصابات واللصوص المرتشين في بعض المواقع الإدارية المهمة، ناهيك بالسعي لتثبيت هؤلاء في مواقعهم بحجة إن لهم حق “الشفعة” باعتبارهم من الملاك!
إنها حلقة جهنمية مقفلة: سوء الإدارة يؤدي إلى تفاقم الأزمة، والأزمة تبرر للخارج القول بأنه لا يثق بالحكم، وعدم الثقة بالحكم يمنع المساعدات، وعدم ورود المساعدات يفضح عجز الدولة وركاكة الحكم ويعزله عن “الشعب” الذي يرى نفسه متروكاً لهمومه بلا نصير أو معين،
وهكذا يتحول الحكم “الحليف” لدمشق إلى عبء عليها، وهي ترى نفسها مضطرة للدفاع عنه وإظهار ثقتها به في حين إنها أكثر الأطراف تضرراً من افتقاره إلى الأهلية وبالتالي للثقة، وكثيراً ما تدفع من رصيدها لكي تحمي استمراره ومنع التشهير به أكثر فأكثر، خصوصاً وإن ثمة خطة “دولية” معلنة لإبقائه عاجزاً وضعيفاً وغير شعبي وملتحقاً ومجافياً لرغبات وعواطف وإرادة فئات أساسية في مجتمعه.
ما الحل؟!
لا حل، في المدى المنظور، لا معجزات سيجترحها “الداخل”، ولا الخارج سيمطرنا بالمساعدات والدولارات وبالذهب الأسود.
الحل هو التعود على العيش مع الأزمة، مرة أخرى، ومع حكم غير حائز على الثقة، حتى إشعار آخر!
بشرط وحيد: أن لا يتسبب هذا الحكم في مزيد من التدهور، وفي تسريع الانفجار، بارتكاباته وصفقاته وتجاوزاته واستهانته بالرأي العام ، ومنع المقامرة بقوت الناس.

Exit mobile version