أول مهمة استثنائية وعاجلة لهذه القمة العربية الاستثنائية والعاجلة في القاهرة اليوم، هي إنقاذ القمة العربية ذاتها، كمؤسسة وكمرجعية عربية لا غنى عنها ولا بديل لها غير الضياع المربك للسيد الأميركي الجبار.
أما المهمة الثانية فهي إنقاذ ما يمكن إنقاذه من النظام العربي الواحد الذي استكمل صورته الحاضرة في أعقاب هزيمة 5 حزيران 1967، وبأفضالها ومعها التراجعات المتوالية حتى الساعة والتي تكاد تسد الأفق وتنسف احتمالات الاستمرار والديمومة إلى الأبد،
وأما المهمة الثالثة فهي، بالاستطراد، إنقاذ رموز هذا النظام من ذواتها، في حالات معينة، وبالرغم منها في حالات أخرى، خصوصاً وإن عبث العابثين وشغب المشاغبين واستهتار المستهترين وأوهام أصحاب أوهام العظمة قد مس ما لا يمس من مصالح “السيد” وبينها مواقع بعض أتباعه المخلصين!
فهؤلاء المحتشدون الآن في القمة هم الذين نسفوها، كمؤسسة، وأفرغوها من أي مضمون، ونسفوا معها – وربما قبلها – جامعة الدول العربية وسائر المرجعيات والأطر السياسية بما فيها تلك المجالس الإقليمية التي فبركوها أو فبركت لهم على عجل وبقصد مقصود بحيث لا تظل بين العرب – كأمة – رابطة ولو معنوية ولا أرض لقاء من طبيعة قومية، وبالتالي من طبيعة معادية – بالضرورة – للصهيونية وكيانها الإسرائيلي أو للهيمنة الأجنبية المباشرة عموماً ولو كانت “إمبريالية” تتزعمها الولايات المتحدة الأميركية.
وهؤلاء المحتشدون الآن فيها، والذين يريدون منها أن تمنحهم الحد الأدنى من الحماية، قد وجهوا إليها قبل أن يركبوا الطائرة إلى القاهرة ضربات موجعة ما زالت تترنح تحت وطأتها بحيث يجوز الشك في قدرتها على الإنجاز ولو بالحد الأدنى.
وإذا كانت الضربة الأولى قد جاءت من بغداد، وعبر اجتياح الحاكم العراقي للكويت وشطبها عن الخريطة، فإن الضربة الثانية الأشد إيلاماً قد جاءت من الرياض وعبر “الدعوة الملكية” التي وجهها الحاكم السعودي إلى من طلبها في واشنطن مبيحاً له فيها الأمة من أقصاها إلى أقصاها، بأرضها وشعبها وثرواتها وتاريخها بالماضي والزمن الحاضر والمستقبل الآتي.
لقد رد فهد بن عبد العزيز على خطأ صدام حسين بخطيئة.
وإذا كان البعض يرى أن تصرف صدام قد استدرج الغزو الأجنبي فإن ملك السعودية قد فتح الباب على مصراعيه لهذا الغزو و”شرّع” الاجتياح الأميركي المقرر أصلاً للأمة، مضفياً عليه صفة النجدة والإغاثة وحماية الأرض المقدسة والدين الحنيف!
حتى لكأن التصرفين يتكاملان ولا يتناقضان،
هل تنقذ القمة نفسها والنظام العربي ورموزه المتهالكة والهلعة، وكيف؟!
للوهلة الأولى يبدو للمتشكك وكأن القمة العربية تنعقد على ظهر حاملة طائرات أميركية.
… ويبدو له وكأن هذه القمة (أيضاً!!) تنعقد بأمر عمليات أميركي محدد، حتى لتكاد القرارات المطلوبة تكون جاهزة لا تنتظر غير الترجمة من الإنكليزية إلى لغة الضاد!!
فالجو المحيط لا يسمح بترف النقاش والجدل حول الحلال والحرام وما يجوز أو لا يجوز.
إنها حرب كونية ضد العرب عموماً، يقودها وينظم حركتها “السيد” الأميركي ذاته، مرجع النظام العربي ورموزه المتباينة المطامح والشعارات،
والمطلوب من القمة أن تأخذ موقعها في هذه الحرب على أمتها، والعصا لمن عصا.
بالطبع ليس هذا قدراً، “فالسيد” الأميركي برغم جبروته لا يستطيع أو هو لا يريد أن يرتكب الجريمة بيده، وأن يتحمل وزرها التاريخي، ولهذا فهو يطالب “أصدقاءه” و”حلفاءه” من أهل النظام العربي بأن يوفروا الغطاء وأن يكونوا القفاز، وأن يوقعوا صكاً بالتنازل عن أرضهم وثروتهم ودمائهم التي ستهدر وكراماتهم التي سفحت منذ زمن بعيد!
لكن المفجع والمخزن إن القمة لا تملك أن تكون مصدر القرار،
فالقرار السياسي قد اتخذ خارجها، وهي تنعقد في ظله وتحت تأثيره الخانق.
والقرار الاقتصادي – المالي قد اتخذ أيضاً خارجها، ولقد وضع الغرب يده على أموال عربية طائلة وكأنها “مشاع” أو قف ذري على الأميركي ومن يمت إليه بصلة نسب (في الملعومات إن الاستثمارات والممتلكات الكويتية وحدها تصل إلى 370 مليار دولار!!!).
والقرار العسكري قد اتخذ، هو الآخر، خارجها،
صدام اتخذ قراره، وجورج بوش ومعه معظم الدنيا قد اتخذ قراره، وتم تقنين هذا القرار في مجلس الأمن الدولي وفي المرجعيات الغربية (حلف الأطلسي) ثم مع الدول المعنية واحدة واحدة،
كذلك ففهد بن عبد العزيز قد استجاب للطلب الأميركي فاستنجد واستغاث فلبى جورج بوش (ومعه المسز تاتشر وآخرون؟) استغاثة الملهوف وقرر إنزال قوات أميركية في قواعدها المعدة سلفاً والجاهزة دائماً في مملكة الحرمين الشريفين.
فماذا تملك القمة أن تقرر فيه؟!
حتى من كان من بين أهل النظام العربي قد تبرع بدور الوسيط (كالملك حسين) قد أجبر على بلع لسانه والانضباط وراء قرار العقوبات الأميركي – الدولي والتمسك بشرعية آل الصباح وحقهم الالهي في حكم الكويت المستفيئة بالعلم ذي الخمسين نجمة.
ماذا بقي للقمة إذن؟!
وكيف يمكنها أن تنقذ نفسها وأهلها من رموز النظام العربي؟!
كيف يمكنها أن تموه الغزو العسكري وعودة الاستعمار المباشر والإخضاع المذل على إنه حماية وتأمين للشرعية القائمة وحرص على النظام العربي والرابطة القومية ومرجعياتها وفي مقدمها مؤسسة القمة العربية؟!
وكيف يمكن للقمة أن توازن بين رعبين يتملكان أهل النظام: رعب من “السيد” الأميركي، ورعب آخر من “الشارع” العربي، الذي قد لا يقر ولا يقبل تصرف صدام حسين، ولكنه بالتأكيد لن يستقبل قوات الغزو الأميركي بالورود والرياحين، ولن يغفر لمن استدعاها أو قبل أن يطلبها أو أنزلها في الأرض العربية لتحمي المصالح الغربية ولو على حساب حياة العرب وكرامتهم وحرياتهم وحقهم في غد أفضل؟!
… وما ظهر في الشارع العربي حتى الساعة ليس إلا أول الغيث!
وقد لا يكون المواطن العربي معنياً بأوهام العظمة عند صدام حسين وبغطرسته أو حتى بمصيره،
ولكنه بالتأكيد لن يقبل بأن تعاقب الأمة العربية كلها وأن تفرض عليها التبعية المطلقة وتشن عليها هذه الحرب الصليبية الشاملة بحجة أن واحداً من حكامها قد أخطأ في حق “السيد” الذي كان يرعاه ويدعمه ويحميه على امتداد سنوات صعوده!
ثم من قال إن هذا المواطن يقبل أن يتحول المدعى عليه (المهيمن الأميركي) إلى قاض وإلى مصدر للعدالة بقوة مدمراته وبوارجه وحاملات طائراته وكتائب التدخل السريع المعززة بصلوات المؤمنين الأميركيين في الكنائس الكاثوليكية والبروتستنتية واستطراداً في الكنيست؟!
إن “استنجاد” من يحمل لقب خادم الحرمين الشريفين يظل أضعف من أن يقلب الحقائق ويموه طبيعة الغزاة وأهدافهم الشريرة التي تصيب كل عربي في مكمن عزته وكرامته وشرفه (أو ما تبقى منها جميعاً)،
وهذا المواطن العربي المسكون باليأس والخيبة والإحباط لا يملك بعد ما يمكن أن يخسره، بل إن الغزو قد يعطيه الفرصة لخوض معركته الأخيرة وبكل شراسة طالب الموت لأنه بات أكرم من الحياة.
فهل تستطيع قمة الخائفين على عروشهم وأنظمتهم، أن توفر لهؤلاء مخرج النجاة، بغير أن تبدو وكأنها ما انعقدت أصلاً إلا لإصدار شهادة وفاة الأمة واندثارها؟!
إنها قمة محكومة بالسير بين نصلين مرهفين ومشرعين: نصل السيف الأميركي المباشر ونصل السيف الأميركي – الإسرائيلي، وكلاهما قاتل ومسموم.
وهي قمة محكومة بمواجهتين : أحداهما مواجهة العالم (الأميركي) أجمع لحساب الأمة، والثانية مواجهة الأمة لحساب الغازي الأميركي المدعم بشرعية دولية تكاد تكون مطلقة.
وفي ظل انعدام الثقة بالقمم عموماً وبهذه القمة خاصة، فإن أقصى ما يطلبه المواطن العربي أن تنجح قمة القاهرة العاجلة والاستنثائية في إعلان رفض الغزو الأجنبي، بالمطلق وبغض النظر عن المبررات الملكية، ليمكنها بالتالي أن تحاسب حاكماً أخطأ فتردعه وترده عن غيه، باسم الأمة ولحسابها، وليس باسم الولايات المتحدة الأميركية ولحساب آل الصباحز
… وهذا المطلب أقرب إلى التمني، لكنه أقل الضرورات لإنقاذ القمة وأهل النظام العربي الذي من بيت أبيه ضرب حتى كاد يهلك غير مأسوف عليه من ضحاياه وهم بالملايين!