لطول ما انتظرنا قراراً، أي قرار، يتخذه الرئيس الياس سركيس، ولكثرة ما طالبناه وألححنا عليه باتخاذ القرار، أي قرار في أي شأن، كدنا نزغرد بالفرحة، أمس، للحكومة الوزانية التي لا نملك غير معارضتها.
وللفرحة سبب وحيد يتصل بكون الرئيس قد حزم أمره أخيراً فقرر، والقرار – ولو خاطئاً – يظل أخف ضرراً من التردد العاجز وهو خطيئة بحق الوطن والشعب وسلامة المصير.
أما المعارضة، معارضة القرار لا أشخاص الوزراء، فلها أسباب تتجاوز الإحصاء والحصر، ونكتفي هنا بعينات أو نماذج من هذه الاسباب.
1 – في سياسة القرار
لا يخفى على أي مراقب أن يلاحظ أن الموضوع بالنسبة للرئيس سركيس لم يكن تغيير أشخاص، بمقدار ما كان تغيير نهج في الحكم… وهكذا فإن المعركة كانت معركة الخلاص من سليم الحص، بكل من وما يمثل، وليست معركة الاتيان ببديل، اياً كان اسم هذا البديل.
ونتائج هذه المعركة، أراد الرئيس أم لم يرد، قصد أم لم يقصد، تصب في طاحونة “الجبهة اللبنانية” التي طالبت برأس الحص وقاتلت ضده بشراسة، بوصفه نقطة تقاطع بين الأكثرية الصامتة والقوى الوطنية والقوى القومية، ورمزاً لتوجه نحو لبنان – الوطن، العربي الوجود والمصير، بدلاً من لبنان الكيان الطائفي المعادي للعرب والعروبة، السائر بالضرورة نحو تحالف مع العدو الإسرائيلي، تحت مظلة الهيمنة الأميركية وبذريعة التعددية والثقافة الغربية.
لقد شكل الرئيس سركيس “حكومته”، مما يعني أن حكومة يرئسها الحص لم تكن “حكومته”، وبقدر ما أكدت الوقائع على امتداد السنوات الأربع الماضيات الفوارق بين سركيس والحص يمكن احتساب مدى اقتراب السلطة من “الجبهة اللبنانية” وابتعادها – بالضرورة – عن خصوم هذه “الجبهة”ز
بصيغة أخرى: إن الحكومة الجديدة خطوة واسعة يخطوها العهد نحو خصوم الاتجاه الوطني والقومي في الداخل والمحيط العربي، أي نحو بشير الجميل وكل من دعمه ويدعمه، ويقول قوله في الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية وسوريا وليبيا (باعتبارها جزءاً من دولة الوحدة) وصولاً إلى سائر أعضاء جبهة الصمود والتصدي ومن والاها.
نقول هذا بغير قصد التعريض بأي من أعضاء الحكومة الوزانية، فالأمر يتعدى الأشخاص وكفاءاتهم، على سياسة العهد بالذات، وتأثير الوزراء الطيبين أو الأوادم في الحكومة لن يتجاوز – في أقصى الحدود – محاولة عرقلة القرارات الضارة، أما “السياسة” عموماً فستجري في واد آخر وسيجدون أنفسهم أعجز من أن يعطلوا اندفاعتها.
2 – في توقيت القرار
لا يمكن القفز من فوق حقائق بسيطة، منها:
إن تشكيل حكومة جديدة، لم يكن متعذراً قبل اليوم، بدليل أن التشكيل لم يأخذ غير 72 ساعة. ولا يحتاج الأمر إلى عبقرية لاكتشاف أن دور شفيق الوزان في إعدادها متواضع جداً حتى لا نقول أنه معدوم. فالحكومة حكومة الياس سركيس بصيغتها وأشخاص الأكثرية الساحقة من الوزراء فيها…
ومن حق الناس أن يتساءلوا: لماذ إذن، لم تشكل حكومة جديدة قبل التاريخ الكتائبي، الشهير، 7 تموز؟!
ثم من حق الناس أن يتساءلوا: لماذا، إذن، لم تشكل حكومة جديدة إلا عشية إعلان نتائج الانتخابات الأميركية الجديدة؟
… ولماذا، إذن لم تشكل إلا بعد الحرب العراقية – الإيرانية التي أعادت السعودية إلى موقع قيادي في المنطقة، بوصفها نقطة الارتكاز الأساسية للمشروع الأميركي بعد مصر الساداتية؟
… ولماذا ، إذن، هذا التشهير اليومي المدروس والفظيع بسوريا وتصويرها وكأنها المسؤولة عن كل شعرة في رأس الحكم في لبنان، والمسؤولة بالتالي عن تعطيل دوره، على امتداد شهور الصيف كلها، طالما أن باستطاعة شفيق الوزان أن يشكل حكومة من 22 شخصية في غمضة عين؟!
وللمناسبة: أين موقع المعاهدة السورية – السوفياتية من هذا كله؟!
3 – في نتائج القرار
حسناً، لقد تصرف رئيس الجمهورية، أخيراً، مستفيداً من موقعه في قمة السلطة، وبوصفه – من حيث المبدأ – صاحب القرار، تاركاً للآخرين أن يتخذوا المواقف التي يرتأون، بدلاً من أن يظل أسير مواقف الآخرين وآرائهم ومصالحهم، محاصراً ومحصوراً في خانة رد الفعل والحيرة والتردد والإحساس القائل بالعجز.
ولا مانع لدينا من أن يكون الرئيس قد اختارنا، بل عيننا معارضة بانحيازه إلى من نعارضهم.
لكن من حقنا أن نلفت نظر الرئيس إلى محاذير ومخاطر منها:
أولاً – إنه قد “عين” في المعارضة أولئك الذين لم يرفضوا يومياً شرعيته ووحدة البلاد، دولة وشعباً، أرضاً ومؤسسات.
ثانياً – أنه لن يستطيع الاعتذار بعد اليوم بغياب الانسجام أو بالاختلال في موقع السلطة، وأنه سيكون – بالتالي – مسؤولاً وبشخصه مباشرة عن فشل الحكم (أو نجاحه…) في معالجة شؤون البلاد والعباد، فهذه الحكومة ظل له ولا تفيد كثيراً في تغطيته وحمل المسؤولية نيابة عنه ولا يبدو أن لها طموح مشاركته في هذه المسؤولية.
ثالثاً – لقد حصر الرئيس بنفسه، جهاراً نهاراً، مسؤولية القضايا الكبرى، بل المصيرية، بدءاً بالعلاقات مع سوريا وضرورة تنظيمها وتقنينها، مروراً بالعلاقات مع المقاومة الفلسطينية، وانتهاء بالموقف من الدولة – الموازية التي يبنيها بشير الجميل بجهد دؤوب، على بعد خطوات من القصر الجمهوري.
ومن حق الرئيس باطلبع، أن يفعل هذا وأكثر منه، لكنه بذلك يعطي الناس الحق في تناوله شخصياً بالنقد والمعارضة وربما ما هو أعنف.
ومع أننا نتمنى في أعماقنا للرئيس سركيس النجاح في هذه المهمة الصعبة، لأننا الأحرص على الوطن وعلى شرعية الحكم ومؤسساته، فأننا في أشد حالات التخوف والتوجس والقلق.
يبقى أن نسجل بعض المفارقات ذات الدلالة:
*أولاها إن الرئيس الياس سركيس لم يستخدم “سلاح الموقف” الذي طالما حرضه على استخدامه الرئيس سليم الحص إلا ضد الرئيس الحص نفسه وبعدما اعترف له الخصم قبل الصديق بأنه رجل دولة ناجح ونظيف قلما عرف لبنان له مثيلاً في تاريخه الحديث.
*والثانية أن التخلص من الحص يتم في حين يتعزز وجود ذلك النمط من الوزراء الذي يفهم السياسة ويمارسها على أنها سلسلة من الصفقات تباع عبرها حقوق الوطن ومصالح المواطنين وخبزهم، بالجملة والمفرق نقداً وبالتقسيط المريح..
ومع أن في الحكومة الجديدة وزراء يقدر الناس كفاءاتهم ومزاياهم إلا أن الطابع الغالب أنها من طراز “حمّل معي أحمّل معك” الشهير،
وهكذا نكون قد بعنا نظافة اتجاه الحكم بمساوئ وزراء الصفقات، وليس هذا من العدل في شيء.
*والمفارقة الثالثة أن الناس لم يجدوا في الحكومة كحكومة من الجدية ما يكفي لمعارضتها.
ولسنا ممن يؤمل شيئاً ممن لا موقف له، إلا ادعاء عشق اللون الرمادي باعتباره منزلة بين المنزلتين!