ما أكثر القعقعة في هذه “الجمهورية الثانية” وما أقل الطحين!
ما أكثر الأزمات الصاخبة و”العركات” المتفجرة والخلافات الحادة والصدامات الخطرة والشكاوى المتدافعة كالسيل إلى “المرجع الصالح”، وما أقل ما هو “سياسي” و”عام” بين أسبابها وذرائعها “الشخصيةط والمختلفة حقيقتها عما هو معلن، في الغالب الأعمز
… إلا إذا صدّق الناس مطالعات الاتهام القاسية والردود الفظة عليها، والتي يتبادلها “الشركاء”، موسمياً ثم تخمد نارها اطفائيات المساعي الحميدة، فسيخرجون بنتيجة أن “الجمهورية الثانية” ليست أكثر من وهم، وإن أهل الحكم فيها والمنتفعين بخيراته هم أقل اللبنانيين (والعرب) تعلقاً بها وحرصاً على استكمال شروط وجودها واستمرارهاز
الطريف إن “حفلات” العراك والمخاصمة والحرد والاعتكاف الخ، المموهة دائماً بشعارات وعناوين قضايا مصيرية، تنتهي عموماً بزيادة حصص الشاكين من جبنة السلطة ومنافعها، وفي القطاعين العام والخاص، وفي الداخل كما في وراء البحار!
أي أنهم كالديكة تعلو صرخاتهم كلها تزايدت متعتهم!
لكن المواطن اللبناني الغارق في همومه اليومية الكثيفة لم يعد ليعنى بمتابعة هذه الحفلات السقيمة، ولا يهمه في كثير أو قليل من “سينتصر” فيها إذ استقر في يقينه أنه هو بالذات المغلوب الوحيد والدائم!
“لا شيء يهم”، كما تقول رواية الراحل إحسان عبد القدوس.
… وما يهم هو المهجور والمهمل والمتروك لرحمة الأقدار وشهامة أصحاب الهمة واستعدادهم للمساعدة في إعادة إعمار لبنان وإنهاء عصر التعتير والتهجير وإفقار الفقير!
وربما لأن هذا المواطن يفكر بالأقساط المدرسية وكلفة المولدات الكهربائية والخطوط الهاتفية القبرصية (أو التركية!)، وبأعباء مصاريف عياله وتموين بينه، فهو في شغل شاغل عن السياسيين ومباذلهم و”معاركهم” التي تشبه حفلات المصارعة المتفق سلفاً على نتائجها!
ربما لهذا لم يتحرك أحد، لا بالاعتراض ولا بالترحيب، بينما “معبود الجماهير” ميشال عون “يُنفى” إلى فرنسا، بخطة بوليسية محكمة شارك فيها مجلسا النواب والوزراء والدبلوماسية والأجهزة الأمنية كلها وصولاً إلى الدرك الفرنسي بل والغواصات الفرنسية!
وبالإجمال، فإن “الفرقعات” التي توالت في الأيام القليلة الماضية، لم تبدل في صورة الوضع العام، ولا هي أملت المواطن باحتمال تغيير يحسن الحالة (وحالته خاصة) كما إنها لم تشد اهتمامه بحيث تعيده إلى “السياسة”.
وظاهرة الانفضاض والاستنكاف والانصراف عن “السياسة” تتفاقم وتشكل معلماً رئيسياً من معالم لبنان ما بعد الطائف، وبالتالي “الجمهورية الثانية”.
لكأنما “الجمهورية الثانية” أداة تعقيم ضد السياسة، وشرط الانتساب إليها التبرؤ من “السياسة”!
أو لكأنما “الحل” يلغي العمل السياسي ويحجر عليه بوصفه من مخلفات الحرب!
الطريف إن القاعدة تنطبق وتطبق على عامة الشعب، أي الدهماء !!)، في حين إن أمراء الحرب قطفوا الثمار باعتبارهم الوكلاء الحصريين للسياسات جميعاً في لبنان وخارجه!
باختصار: عليك أن تصدّق أن “المتخصصين” في السياسة والمرخص لهم بتعاطيها لا يزيد عددهم عن بعض عشرات (هم معظم الوزراء لا كلهم وبعض النواب لا جلهم)!!
ولقد سلم “اللبناني” بهذا الأمر المقرر، مفوضاً الأمر إلى صناع القرار من المتحكمين بالأقدار، مفترضاً أن ذلك من طبائع المراحل الانتقالية وإعادة البناء!
الأطرف إن الأحزاب قد أثبتت براءتها من تعاطي العمل السياسي عن طريق التخلص من إرثها الحربي (الميليشيات) للدولة، في حين كانت تخلت عن دورها السلمي (الصراع الديمقراطي) للطوائف والمذاهب!
ومعظم الأحزاب “خلصت” وانتفى وجودها بمجرد أن ذهب “قائدها” إلى الوزارة – ومعها النيابة!! – وذهب عسكرها إلى الأجهزة الأمنية القديمة في الدولة الجديدة!
أي أنه فرض على الدولة أن تستوعب “قيادة الميليشيات” و”قواعدها” فتدفع للفئة الأولى منافع الدرجة الأولى (وبينها مواقع في الفئة الأولى للإدارة)، وللفئة الثانية رواتب شهرية يدفعها ضحايا عصر القهر الميليشياوي الطويل!
والكل قد دخل الدولة بشفاعة الطائفة والمذهب وليس كمحصلة لنضاله الديمقراطي من أجل الحق والخير والعدل والتقدم والجمال!
بين الطرائف أيضاً: إن أمراء الحرب – حكام عصر السلام (؟) لا يقبلون كلمة نقد واحدة توجه إلى إنجازات عصرهم الذهبي القائم، لكنهم هو بالذات يلعنون “جمهوريتهم” ألف مرة في اليوم ويقولون فيها ما قاله مالك في الخمر!!
فطالما إنهم وحدهم “السياسيون” فإن حق النقد والاعتراض محصور بهم كالوقف الذري!
في غياب “السياسة” و”العمل السياسي المنظم” والصراع الديمقراطي المحكوم بقوانين وأعراف وضوابط تدرس في المعاهد والجامعات، تصبح “المعارضة” ضرباً من ضروب “المزاج” أو الهوايات غير الشرعية.
كيف تعارض من لا برنامج له، أو بالحري من يتضمن برنامجه المعلن المتناقضات جميعاً، والمطالب المتباينة وغير المعقولة جميعاً، بحيث يستحيل التحديد ومن ثم المحاسبة؟!
كيف تعارض من لا هوية له، لا سياسياً ولا اجتماعياً ولا اقتصادياً ولا ثقافياً الخ… فالهوية “القومية” نفاق يلغيه الموقف الفعلي في اللحظة الحاسمة، والانتماء الطبقي يموه بشعارات طائفية ومذهبية تحرف الصراع عن مجراه وتمكن لقيام “حلف” متين من المصالح بين الأكثر طائفية والأكثر مذهبية من بين ممثلي “التيارات” المصنفة سياسية!
إن حكم “مسبحة الدرويش” يجعل قيام المعارضة متعذراً،
ففية “من كل صنفين اثنان” (وربما أكثر)، والألوان تجتمع فيه كاجتماع ألوان الطيف في قوس قزح…
وهو مثل قوس قزح يرى ولا يلمسن ينتصب قنطرة بين السماء والأرض ولكنه لا يمطر، يزين سديم الفضاء للحظات لكنه لا يثبت ولا يبقى ولا ينفع لا في ترسيم الحدود ولا في توضيح الملامح.
إنه حكم كل الألوان، أي حكم اللاأحد، وربما هو اللاحكم،
ولذا تتزايد “إنجازاته” كلما تزايدت خلافات أطرافه، ثم إنه غير قابل للكسر أو الانشقاق كطناجر تيفال، بدليل إن هؤلاء الأطراف ما زالوا أمراء على “دولهم” بينما هم في قمة السلطة من “دولته”، يشرّقون ويغرّبون فيبقى ويبقون فيه، يحردون ويستنكفون ويستقيلون فيبقى ويبقون فيه!
وسبحان الحي الباقي الذي لا يحول ولا يزول. والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وإنه لله وإنا إليه راجعون!