ليس أرخص من الكلام عند الحكام العرب إلا الحبر عند كتابهم ومداحيهم ومفسري مواقفهم من “شعراء” التبريرات الفوريين!
بين ليلة وضحاها، ومن دون مقدمات مقنعة، يتحول الأخ الشقيق إلى عدو مبين، ويتم تبديل “الاستراتيجيات” وكأنها قمصان وسخة، وتنقل الجيوش وسائر القوات المسلحة من جبهة في أقصى الجنوب إلى جبهة مستحدثة في أقصى الشمال أو العكس.
وإنها لمفارقة موجعة أن تكون قمة بغداد الاستثنائية قد باتت، وبعد أقل من شهرين، نسياً منسياً، بكل قراراتها التضامنية والتي اتخذت – كاريكاتورياً – طابع الهجوم المباشر على الإمبريالية الأميركية ومشاريع التوسع الصهيوني التي تلغي فلسطين وتهدد ما بعدها من بلاد عربية بخطر داهم وجدي.
الموجع في المفارقة أن بغداد التي دعت فاستجاب لدعوتها أشقاؤها العرب واحتشدوا فيها متضامنين معها، تستخدم الآن لغة حربية مع أقرب قطر عربي إليها حتى ليكاد يكون بعضها: الكويت، وتوجه إلى حكومتها اتهامات تراوح بين الخيانة والغدر والطعن بالظهر بخنجر مسموم!
والموجع، بالمقابل، إن الكويت المتضامنة (علناً) قبل خمسين يوماً فقط مع بغداد تتصرف وكأن ليس بينها وبين “الأخوة العراقيين” إلا السيف… الأميركي الذي “يملأ البحر سفيناً”!!
على ماذا كان التضامن قبل سبعة أسابيع، إذن؟!
من خلال الاتهامات والاتهامات المضادة يثبت في الذهن إن النظامين العراقي والكويتي مختلفان (إلى حد التلويح بالحرب) على الأرض والنفط والمياه والعلاقات مع الخارج الخ..
بل لكأنهما مختلفان على البديهيات… فالذاكرة الكويتية تستعيد تهديدات عبد الكريم قاسم باستعادة “قضاء الكويت” إلى “لواء البصرة” بوصفها أرضاً عراقية.
والذاكرة العراقية لا تستطيع أن تنسى إن العالم كله وقف يناصر “شيوخ الكويت” في تجزئة التراب الوطني العراقي وإقامة كيان مصطنع فوق حفنة من الرمل تختزن بعض الثروة الوطنية والقومية.
وبغض النظر عن المهاترات الإعلامية، فالثابت إن أهل النفط من حكام العرب عاجزون عن الاتفاق على الحد الأدنى الأدنى الأدنى: أي على سعر ببيع برميل النفط للمحتكر “الغربي” المتحكم بهم جميعاً، بالدخل القومي لكل منهم، وبخطط التنمية، وبأحلام القوة، وبالقدرة على التقدم في اتجاه العصر، وباختصار: بمصير حكوماتهم وربما كياناتهم ذاتها.
والثابت إن أهل النفط من الحكام العرب غدروا فعلاً وما زالوا يغدرون ببعضهم البعض، مع وعيهم الأكيد بأن الكل متضرر، على المدى الطويل، وإن المحتكر “الغربي – الأميركي – هو المستفيد من مصائبهم جميعاً،
ولكن من هو المهيأ والقادر والمؤهل للتفكير “بالمدى الطويل”،
المهم أن يكون “اليوم” لصاحب اليوم أما الغد ففي ضمير الغيب، ثم إن المستقبل لله، هذا ما لم “يسرقه” الخصم المتربص من قبل أن يجيء!
والحقيقة إن أهل النفط من حكام العرب يغدرون بالأمة كلها، فهم يفرطون بثروتها القومية ويهدرونها هدراًن ويهدرون معها الغد العربي واحتمالات توظيف هذه الثروة من أجل غد عربي أفضل، في الأقطار النفطية أولاً ثم في سائر أرجاء الوطن العربي.
والنتيجة هي ما نرى – بالصورة الملونة – وما نسمع – بالصوت المجسم – : الأسطول الأميركي يمخر المياه العربية بحرية مطلقة “لينصر” عربياً على عربي، معلناً إن مهمته الفعلية هي تأمين استمرار وصول النفط العربي رخيصاً جداً جداً إلى المستفيدين منه في الغرب الأميركي – الياباني – الأوروبي.
ويكاد الناطق الرسمي الأميركي يقول إنه مستعد لإهدار الدم العربي حتى يستمر تدفق النفط “العربي” رخيصاً في شرايين الصناعة الغربية (والإسرائيلية).
إنها المفارقة نفسها، من إقليم التفاح في جنوب لبنان إلى شواطئ الخليج العربي وتخوم الجزيرة العربية: يقتتل “الأخوة” و”رفاق السلاح” و”أبناء الصف الواحد والقضية الواحدة”، فتكون النتيجة أن تزداد المساحة التي يشغلها “العدو” في ما بينهم فيصير “شريكاً” ثم يصير “المقرر” ويصيرون مجرد منفذين لأغراضه هو واستراتيجيته المعلنة.
المفارقة نفسها: يدعي طرف الحرص على الأرض ويدعي الطرف الآخر الحرص على “الثورة” أو على “الثروة” فتكون النتيجة أن نخسر هذه وتلك وأن ينتصر العدو على الجميع بلا قتال!
… أو يدعي طرف الحرص على “السيادة” ويدعي طرف آخر الحرص على “الديموقراطية” فتكون النتيجة زوال هذه وتلك والوطن القائم او الموعود!
ما قيمة التشدق بالتضامن العربي طالما إن المعيين أعجز من أن يتفقوا على سعر برميل النفط؟!
وما قيمة القمم العربية، بكل الفولكلور الإمبراطوري فيها، إذا كانت أعجز من أن توصل حكام العرب إلى الحد الأدنى من التفاهم على المصالح المشتركة، حتى لا نقول: على المصالح القومية العليا.
هل استحال التفاهم العربي، ولو بلغة النفط الإنكليزية؟!
وهل استحال الفهم العربي، ولو بلغة التوسع العبرية؟!
ومسكين حال رئيس دولة الفقراء العرب، حسني مبارك، الذي تحول إلى دور أمين عام الجامعة العربية، فطاف يبذل ماء وجهه حتى لا تكون الكلمة بين الأخوة للسلاح… الأجنبي.
إنه يمثل، في جانب منه، الضحية الكبرى لسوء استخدام النفط العربي وعوائده الفلكية.
وهو يمثل البلد الذي “أذله” الأشقاء من أهل النفط العربي بأكثر مما أذله العدو القومي، عندما امتنعوا عن مساعدة مصر حتى لا تجوع وحتى لا تكون رهينة للغاصب والطامع وتابعهما الفاسد المفسد في الداخل.
ومرة أخرى يمكن القول ببساطة إن هذه الظواهر المرضية التي تتفاقم مخاطرها على مجموع الأمة يوماً بعد يوم إنما هي النتيجة الحتمية لضعف الشعور القومي لدى حكام العرب.. ومن أين يأتي التضامن في غياب الوعي بالمصير القومي الواحد؟
إنه مرض “الكيانية” العضال، المدمر للقطر وللأمة،
إنه سرطان “الإقليمية النفطية” الذي يساوي بين الشقيق والعدو، بل هو يقدم العدو لأن خطره، في وهمه بعيد، بينما خطر الشقيق داهم وقريب!!
والعلاج ليس في الصيدليات، بل هو في الشارع المغيب بالقمع والقهروالافقار والاذلال والتجويع.
وما لم تعد الروح إلى الشارع العربي، إلى العمل الشعبي العربي، فلن نشهد إلا المزيد من الحروب بين الحكام، تارة على الماء، وأخرى على الرمل، وثالثة على النفط، ودائماً على السلطة، وسيكون على المواطن دائماً أن يدفع الثمن من دمه ومن حقه في يوم أفضل وفي غد أفضل!