أهي غلطة الشاطر أم هو شرط علي الشاعر؟!
سواء أكان هذا أم تلك فإن البيان الذي أصدره رفيق الحريري في ختام زيارته “الخاصة” للمملكة، والتي شملت لقاءين مع “الملك، حفظه الله”، وبضعة لقاءات مع سائر أفراد الأسرة الملكية ورجالهم، هذا البيان جاء نافراً بملافظه، غريباً بمضامينه، وخارجاً على الأصول والتقاليد المألوفة في العمل السياسي اللبناني، وبالتحديد في مستوى الحكم.
ومع التقدير لخصوصية علاقة رفيق الحريري بالمملكة التي منحته جنسيتها في جملة ما منحته من خير، فإن موقع رئيس الوزراء في لبنان كان يفرض عليه اختيار “لغة” أخرى، أقرب إلى هذه السائدة والمقبولة في بلده الذي شرفه برئاسته.
ولعله كان من الأفضل للحريري وللمملكة لو أن البيان لم يصدر أصلاً، فإذا كان شراً لا بد منه فيا حبذا لو أنه صدر في بيروت وبعد إنجاز الوعود والتعهدات ووصول المساعدات والهبات والصدقات، وبعد إبلاغ مجلس الوزراء بالتفاصيل، إذا لجاء بالضرورة أرصن، ولرفع عن كاهل رئيس الحكومة عبئاً معنوياً وسياسياً إضافياً يثقل حركته ويزيد من اللغط حول توجهاته وارتباطاته ومدى تأثيرها على موقعه الممتاز.
والموضع ليس شكلياً، فلغة التخاطب في نتاج النظام، وهي تعكس طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، واللبنانيون يستكثرون على رؤسائهم ووزرائهم الألقاب الرسمية ويطالبون بإلغائها، فمن الصعب عليهم بالتالي قبول لغة تعطي الحاكم – أي حاكم – مرتبة تكاد تعلو به فوق البشر ويصبح ضرورياً معها أن يهتم الله سبحانه وتعالى، شخصياً، بمهمة حفظه.
مع ذلك، يتمنى اللبنانيون أن تكون زيارة الحريري الخاصة قد نجحت وحققت أهدافها، شاملة في رعايتها الزيارة الأخرى الخاصة التي قام بها وزير المهجرين وليد جنبلاط “بالتنسيق مع رئيس الحكومة”.
النتائج الطيبة تجب المقدمات غير المستحبة،
لكن ثمة ملاحظات أولية على ما “سُرّب” من نتائج زيارة الحريري الخاصة للمملكة التي عملت أو وعدت على “مساعدة لبنان على النهوض والتعافي لبضع طاقاته جميعاً في خدمة الأمة وقضاياها ومسيرتها التنموية الشاملة” و”وضع طاقات المملكة في المحافل الدولية لنصرة قضيتنا المركزية، أي تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، والمهجود المطلوب لإعادة بناء الدولة وإعمار لبنان والنهوض باقتصاده، إضافة إلى تدعيم الأمن وسلطان الدولة والقانون لإكمال مسيرة التوحيد والسلام والإصلاح والإعمار”.
فالأخبار المسربة تحدثت عن استعداد عدد من رجال الأعمال وشركات المقاولات والمؤسسات المالية لتوظيف بعض الفائض من أموالهم في الشركة العقارية ومشروعها لإعادة بناء الوسط التجاري في مدينة بيروت.
ولقد خرجت علينا بعض الصحف السعودية بالبشائر بكلمات صارخة: بن لادن قادم بملياراته، وصالح كامل ومؤسسته “دلة البركة” ستغمر بيروت بالذهب الابريز،
بل إن هذه الصحف بهرت اللبنانيين بأرقام الملايين التي دفعت أو ستدفع كمساهمات في رأسمال الشركة العقارية، وهي في نهاية المطاف شركة تجارية خاصة ستعمل كمقاول هائل النفوذ والإمكانات والأرباح في مشروع استثماري لا علاقة للدولة اللبنانية فيه، إلا كمنفذ – بالسخرة – لأعمال البنية التحتية في الوسط التجاري، وإلا كمتنازل عن حقوقها في الضرائب على أرباح هؤلاء الآتين بملايين ليعودوا بمليارات.
لذا اختلط الأمر على اللبنانيين: هل ذهب رفيق الحريري لتسويق مشروع الشركة العقارية، وباعتباره المساهم الأكبر فيها،
أم هو ذهب كرئيس لحكومة لبنان والتقاه الملك فهد بهذه الصفة، وبالتالي فحديث المساعدات يعني الدولة لا الشركات، ولبنان كله وليس الوسط التجاري لمدينة بيروت بوصفه استثماراً ناجحاً؟!
وهل بن لادن، حفظه الله، آت كمستثمر ليجني هنا أرباحاً لا يستطيع جنيها في مكان آخر، أم هو مهتم يبعث الحضارة العربية وإنعاش رسالة لبنان “في خدمة الأمة وقضاياها”؟!
وهل صالح كامل، حفظه الله، يجسد بشخصه ومؤسسته العملاقة باستثماراتها – وأرباحها – المملكة، أم هو سيختار لبنان بدلاً من الصومال أو السودان، مثلاً، أو بدلاً من الغرب حيث الضرائب تمنع الربح الفاحش الذي يسميه الإسلام “الربا” ويحرمه تحريماً؟!
وليس مما يزيد في اطمئنان الللبنانيين أن تضاف أسماء كعصام فارس وفؤاد رزق وجورج أفرام ومستثمرين آخرين إلى قائمة المساهمين في الشركة العقارية. ففي الاستثمار لا مجال لاستخدام الدين، وأصحاب الأموال طائفة واحدة.
ثم أن أولئك من السعوديين، ودائماً حسب الأخبار المسربة أو الشائعات المروجة، سيساهمون بمئات الملايين، بينما أصحاب الأموال من اللبنانيين سيساهمون بمبالغ “زهيدة” تتراوح بين خمسة ملايين وعشرين مليوناً وسقفها خمسون مليوناً للأغنى والطامع في المنصب الأفخم من بينهم.
لقد خلقت هذه الأخبار السرية أو المروجة عمداً تشويشاً ليس في مصلحة الحريري: فإن كان قد ذهب لتسويق شركته العقارية فلماذا بيان شكر الملك، وإذا كان ذهب من أجل إعادة إعمار لبنان فلماذا في زيارة خاصة، ثم أين هو الصندوق الدولي لأعمار لبنان، وإجمالاً أني هو البلاغ السعودي الرسمي حول هذا الموضوع وما هو حجم المساعدات إن وجدت ومتى وكيف ولمن وأين يتم دفعها؟!
فديون لبنان على المملكة وعلى الدول العربية الغنية عموماً تبلغ – نظرياً – حوالي الملياري دولار،
والوعود التي سبق أن تلقاها بالدعم والمساعدة والعون لا حصر لها،
ومع التمني بأن يكون الحريري قد نجح حيث أخفق الآخرون، فإن الوضوح في مثل هذه الأمور يجب أن يكون قاطعاً لا يترك مجالاً لأي التباس، خصوصاً وإن المردود السياسي للالتباس سيكون مدمراً.
أليس كذلك يا حفظه الله؟!