التنظيم المركزي الوحيد في مصر هو الدولة،
وهو تنظيم مثقل بالطقوس والتقاليد واللوائح والمراتبية والبيروقراطية والتآكل .. بمرور الزمن!
وقوة هذا التنظيم لا تتجلى في حقل الإنجاز بقدر ما تتجلى في مواجهته الشرسة والمؤثرة لرياح التغيير، سواء أهبت من الداخل أم كانت آتية من الخارج، وبالذات إذا كان مصدرها خارج الحدود.
ولقد كان هذا التنظيم “السري” بمعنى من المعاني، وراء معظم إخفاقات التجربة الناصرية داخلياً وعربياً، وبالتحديد وراء تغييب الوهج الثوري والدلالة الثورية للعديد من القرارات والإجراءات، وتحويلها إلى مجرد تدابيير حكومية عادية أو أوامر من السلطة، وأحياناً إلى عكس المقصود منها تماماً!
هذا في ظل سلطة قائد تاريخي كجمال عبد الناصر، وفي ظل عملية تغيير طموحة كالتي جسدتها ثورة 23 يوليو.
ولقد عانى جمال عبد الناصر الكثير من “دولته”، وعانى معه منها كل عربي من خارج مصر أراد أو حاول أن يقيم معه علاقة سياسية بأفق ثوري،
كانت العلاقة تبدأ سوية بالقائد، لكنها ما تلبث أن تنزلق إلى دهاليز الأجهزة فتخسر طبيعتها ونصاعتها وشرف الغاية،
وعاش كثيرون من الساسة والزعماء العرب والمؤمنين بقيادة عبد الناصر ومصر حالة تمزق مريعة بين “المصرين”: مصر الثورة، ومصر الدولة البليدة والرجعية بنمط ممارساتها المستقلة عن الدول العربية والمغايرة لتوجه قيادتها..
فالعلاقة مع مصر، الأولى، هي علاقة مع الفكرة والرمز والشعار،
والعلاقة مع مصر، الثانية، هي علاقة مع المخابرات والمباحث و”المكاتب الخاصة” والموظفين.
وخسرت مصر والعرب العديد من القيادات العربية الشابة المؤمنة بقيادة مصر ودورها العربي العظيم والذي لا يمكن لأي قطر عربي، آخر أن يعوضه،
وخسر العديد من الشباب العربي، نفسه وإيمانه ومثله نتيجة لاصطدامه بالجدار السميك والبارد (للدولة) وعجزه عن الوصول إلى “مصر” والتأثير فيها.
بل إن أحزاباً وحركات شعبية ذات جذور ضاربة في الأرض، ولها جماهرية محترمة، قد سقطت على الطريق إلى مصر، مسقطة معها شيئاً من قوة جمال عبد الناصر ومن قدرة 23 يوليو على أن تصبح “الثورة العربية” الشاملة المطلوبة والمنتظرة منذ قرون.
وليس أسهل من أن يقال: أما والحالة هذه فلنترك مصر وشأنها، ولنبتعد عن “دولتها” – خصوصاً عندما تشحب فيها وتتضاءل حركة الثورة – مستعيضين عنها بتونس أو بالجزائر أو بالعراق،
لكن مثل هذا التصرف السهل كما الخطأ، فظيع كما الخطأ!
ذلك أن في هذا الوطن العربي مصر واحدة،
وفقط مصر هي التي لا يعوضها أي قطر آخر،
وصحيح أن مصر تخسر كثيراً عندما تبتعد عن العروبة، أو يحاول نظامها الاخذ “بعروبة الأنظمة” ويعتمد “التضامن الرسمي” بديلاً عن التوجه الوحدوي،
لكن العروبة، كقضية ثورية تظل هي الخاسر الأكبر،
فتضاؤل دور مصر العربي رصيد ثمين للانفصالية والكيانية والقطرية والرجعية (وطبعاً للصهيونية وإسرائيل) وسائر أمراض عصور القهر الاستعماري والتخلف.
والثوري، وحده، هو الحريص على عدم تغييب مصر، وقبل: على عدم انكفائها إلى قوقعة الفرعونية التي عمل الاستعمار طويلاً على زرعها في لا وعي الكثير من المصريين وفي ايديولوجية “الدولة المصرية”
ومن أجل الوصول إلى مصر، مصر الفكرة والشعار والرمز، لا بد من الاشتراك مع المواطن الطامح إلى التغيير داخل مصر في حفر الجبل.. ولو بإبرة!
وبالصبر الثوري، والعمل الدؤوب، والفهم لطبيعة مصر ودولتها، يمكن تحقيق هذا الإنجاز التاريخي العظيم.