حيّ على الجنون!
حيّ على الطلقات البكر وهي تزغرد مندفعة نحو هدفها الصح، في المكان الصح، وفي اللحظة الصح!
هنا رأس البراق، هناك رأس محمد، هنالك أم الرشراش، ومن بعدها العقبة، وإلى الخلف “طور سنين”.. وها هو البحر يغسل صدأ الذاكرة فتستعيد صفاءها وتلك الصورة الخالدة حين نهضت “المحروسة” فامتشقت دمها وعبرت خط الاستحالة.
“في مثل هذا اليوم قبل 12 سنة اندفعنا كما البراق لنرى وجه الله من فوق الطور، واندثروا هباء، واحتضنا حبيبات الرمل بأهداب العيون، وسقيناها بعد الدم دمع الفرحة بلقاء مع الكرامة عز حتى هانت دونه الأرواح، فلماذا هؤلاء هنا، بعد، ومن سرق منا الطريق وأوقف الأمر المقدس: التحرير بالنصر الكامل أو الشهادة؟! لا بد إن ثمة خطأ، فلنكمل المهمة!!
“أليست هذه سيناء؟ بل أعرف حياتها اسماً اسماً ووجهاً وجهاً، اعرف من عليه خال، ومن على الذقن وشم، اعرف الأدعج والأعمص والأعشى، واعرف عظيم الأنف و”سمعه” العبيط و”القناوي” وحسن أبو نخيله و”الرائد حسن” الذي كنا نسميه “ناطور مصر”، لأنه كان يحلم بكوخ فوق أعلى قمة في ممر مثلاً.
“هذه سيناء، قطعاً، هنا مصر، أرضي، وهذا المدى مداي، نسماته أنفاس الأحبة، والرمل هم وها هو صدى صوت الله يتردد حاسماً: اضرب، اضرب، اضرب في المليان!
“آن، إذن، أن ينتهي زمن التيه، آن أن نصرعه، آن أن نكل العبور، آن أن يتم العناق الحميم بين اللحم والدم المضمخ بشذى زهر الصبار القائم نوارات تحمى من الضياع واليأس!
“آن أن ينتهي زمن التيه، آن أن ينتهي زمن اليتم وافتقاد اللسان والروح والهوية والجدارة بشرف الحياة، آن أن يموتوا جميعاً!!
.. ومع الطلقات تهاووا في كل جهة، في المشرق والمغرب: أصحاب جلالة، أصحاب سيادة، أصحاب فخامة، وكل القائلين بالعقل والروية من أهل الحكمة وبعد النظر وطول الباع في تصفية القضية!
لقد أصابهم جميعاً هذا الفتى الذي لم يشرب من “نهر الجنون” واستمر يرى الأبيض أبيض والأسود أسود، ولا مجال للتسوية و”السلام” بينهما إلا بالخيانة والتفريط بالأرض والكرامة وبيع جلود الشهداء للنخاسين.
تماماً كزغرودة البشارة في ليل ساج يثقل بظلمته على القلب والفكر والوجدان، جاءت طلقات “المجنون بمصر” وفي موعدها الصحيح.
جاءت إعلاناً مدوياً، بالرصاص، عن أن مصر لم تمت ولن تموت، ففي اليوم ذاته كانت طلائع شعبها العظيم تطوق بقبضتها سفارة دولة العدو في القاهرة، بعدما طوقتها بغضبتها منذ اليوم الأول لإقامتها بقوة القهر فوق أرض “العزيزة”.
وجاءت إعلاناً بأن مصر عربية هي ، وعربية تبقى،
فقبل أربع سنوات، بالضبط، أنهت عصبة من “المجانين” أيضاً عصر “الفرعون” الذي باع النصر ومعه مصر وفلسطين وكل الأرض العربية بثلاثين من الفضة.
وفي لبنان ثمة “مجانين” يؤدون يومياً واجبهم نحو الأرض وشرف الانتماء إليها، يزيحون بأجسادهم آلة الاحتلال الإسرائيلي ذاته، عن شبر هنا وشبرين هناك، ويروون نبتات الزغتر والبنفسج والياسمين بين جبل عامل والجليل الأعلى، وفي الضفة وغزة وأنحاء أخرى من فلسطين من يكتب بدمه في كل صفحة من التاريخ إن فلسطين عربية، وإنها أرضه أو قبره حتى يجيء يوم التحرير.
.. وهو عصر الجنون فعلاً: فكل ما حولنا يدفع إلى “الجنون”، ومع هذا فإن المجانين قلة بعد،
ومن قبل اعتبر الأنبياء مجانين، وكذلك الرواد عموماً والأولياء الصالحون، والأبطال في كل مكان وزمان.
وبمثل هذا “المجنون بمصر” عربية حرة وسيدة، وهذا “المجنون” بلبنان عربياً حراً وسيداً، وهذا المجنون بفلسطين عربية وحرة وسيدة، نستطيع إنهاء عصر القهر والذلة وحكام القمع وسائر رموز العصر الإسرائيلي.
ولتكن التهمة بعد اليوم: ألست مجنوناً يا أخي؟!