كان ياما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، كانت هناك دولة اسمها لبنان، وكان لهذه الدولة مجلس وزراء يتشكل من المتمولين والأعيان والوجهاء، وكان اجتماع هذا المجلس كل أربعاء،
أمس، الأربعاء، كانت وكالات الأنباء حافلة بأخبار الاجتماعات ونصوص البيانات الصادرة عن قوة وهيئات وتركيبات، ما كانت لتكون لو إن في لبنان دولة بدل الدويلات، ولو إن للدولة حكماً وحكومة تلتئم فتناقش وتقرر وتبت في الشؤون العالقة التي تمس مصالح العباد والبلاد وحياتهم والمصير، وما أكثر الشؤون والمعلق والمعلقين!
وعلى سبيل المثال لا الحصر، ومن موقع المذكر بالغائب المفتقد وليس من موقع المنتقد، يمكن التوقف أمام ثلاثة اجتماعات تحديداً: الأول هو الاجتماع الدوري للقاء الإسلامي، والثاني هو اجتماع “الجبهة اللبنانية” والثالث هو اجتماع مجلس الأساقفة الموارنة.
هذا هو البديل، إذن.
كانت الطوائف تلتقي عبر وجهائها والأعيان، على طاولة في القصر الجمهوري بقيادة الطائفة الممتازة والمميزة وتحت رايتها وبرعايتها، فلما تعذر عليها التلاقي انصرفت كل طائفة إلى معالجة الشؤون العامة، منفردة، وبوجهة نظرها الخاصة كطائفة تكاد تعطي نفسها حقوق “الأمة التامة”.
بالطبع كان يمكن أن تكون هذه “الأربعاء” أغنى باللقاءات المماثلة كأن تشهد أيضاً اجتماعاً للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، واجتماعاً للمجلس الملي الكاثوليكي، واجتماعاً لمجلس الطائفة الأرثوذكسية، واجتماعاً للفعاليات الأرمنية، وربما لقاء للمؤسسات الدرزية وهكذا…
فالكل حاضر بغياب الدولة، وفاعل ومؤثر في حياة الناس في غياب الحكم والحكومة.
ومن أجل استحضار روح الدولة، إذن، لا بد من تغييب جزئي للطوائف أو تقليص ولو محدود لوجودها بما يسمح لمجمع الطوائف أن يحتل مكانه تحت الشمس!
وها نحن ننتظر أن تقرر الطوائف، وبالأساس الطائفة الممتازة، ما هي المساحة التي يمكن أن تتكرم بها على الدولة حتى تقوم قيادتها وتستعيد قدرتها على الفعل؟!
أليس هذا هو المعنى الفج لانتظار جواب رئيس الجمهورية ومن معه على ورقة العمل “الإسلامية” التي توحدت عبرها رؤية ممثلي الطوائف الإسلامية الثلاثي لصيغة مستقبل الحكم ومواقع السلطة في البلاد؟
وهذه الرؤية هي، للمناسبة، جواب “إسلامي” على عرض “مسيحي” بإعادة توزيع الحصص بين الطوائف بما يلغي شعور “المغبون” بالغبن من غير أن يلغي موقع “الممتاز” وشعوره بالامتياز!
وإذا ما افترضنا الصحة في ما ينشر عن ورقة عمل أمين الجميل، ثم عن الورقة – الرد على أعدها “الفريق الخماسي” في دمشق، وتبلغها منها رئيس الجمهورية ثم أوفد مبعوثيه اليوم بجوابه عليها ليعرف من ثم رأي “الفريق الآخر” ثم يعد رده على الرد في انتظار الرد على الرد على الرد…
وإذا ما افترضنا الجدية في البحث عن صيغة تصلح مدخلاً إلى حل صحي وصحيح للمسألة اللبنانية، وتركنا جانباً العوامل الإقليمية والدولية، لتبين لنا ما يأتي:
أولاً – إن “الحوار” هو حوار داخلي، أي بين أطراف متماثلين وشركاء في لعبة واحدة… فالكل من منبت واحد ومن منشأ واحد وبتوجه واحد، بغض النظر عن الادعاءاتز
ونحن لا نسجل هذه الحقيقة من باب الاعتراض، فنحن مثل الناس جميعاً “مع الحل” ومع عودة الدولة ومؤسساتها “الشوهاء” لأننا ضد البدائل التي قدمت أو يمكن أن تقدم لها في ظل المناخ المسموم السائد.
فدولة واحدة عوراء “خير” من كانتونات عمياء بالحقد وبالغرائز الطائفية والمذهبية المستثارة.
وبرلمان وصل النواب إليه بالرشوة أو باستغلال النفوذ أو حتى بالتزوير “خير” من تنظيمات تفرض هيمنتها علينا بقوة السلاح والقهر والخطف و”السلبطة” والممارسات الأخرى “العطرة الصيت” التي عرفناها من أبطال تحرير الزواريب من أهاليها والثمين من موجوداتها!
فالبرلمان، بالنتيجة، منتدى يعطي منبره للجميع، وصحيح إن “الحكيم فيه والشغل خارجه”، وصحيح إن “المصالح” تتحكم بما يصدر عنه وليس “المطامح”، ولكن الصحيح أيضاً إن البديل المعروض علينا هو خليط من الفاشية والقراقوشية وتخلف الدهماء والتعصب الأعمى الذي يقفل أبواب المنتديات والجامعات وأفواه الجائعين والمظلومين ويدوس بأقدامه “المطامح” ويحرس بسلاحه سلامة المصالح واصحاب المصالح القادرين على إغرائه وتسخيره لخدمة أغراضهم بوصفها “الحقوق المقدسة للطائفة”!!
ثانياً – بهذا المعنى فإن “الحوار” الذي يشارك فيه من افترضوا أو ادعوا أو حاولوا فقصروا عن تغيير النظام أو تطويره، قد أعاد الاعتبار إلى ذلك النظام إياه بكل نقائصه وعيوبه التي تكاد تبدو الآن “فضائل”.
وهذه هزيمة صريحة وقاسية لحاملي أفكار الثورة والحالمين بغد أفضل الذين خسروا مرتين: مرة على يد النظام نفسه، وعبر المواجهات المباشرة مع رموز السلطة فيه أيام كانت السطلة “نظامية”، ومرة ثانية على يد هؤلاء الذين برروا بفشلهم الذريع، على مستوى البرنامج كما على مستوى الممارسة، خطايا النظام المميتة وصوروا الطامحين إلى الاصلاح وكأنهم “مارقون” على طوائفهم و”خارجون” على قوانين الطبيعة.
ثالثاً – إن “الحوار” هو حوار بين الطوائف واقصى طموحه أن يتوصل إلى إحداث توازن جديد في العلاقات يمكن أن تبنى عليه تسوية جديدة ستظل محكومة بالسقف القديم، لأن تغيير الصور المعلقة على جدران الصالون لا يعني الانتقال إلى بيت الأحلام الجديد!
والمواطن مع مثل هذه التسوية لباسه من إمكان تحقيق أحلامه.
ليس بالإمكان أبدع مما كان، حسناً، فليُعد إذن ما كان!
لتكن “التسوية”، شرط أن يترك له حرية النضال لتطويرها بالوسائل “التقليدية”، أي بالبرلمان والأحزاب والهيئات والجمعيات والصحف والبيانات والتظاهرات والاضرابات،
هو لن يستخدم من أجل هذا الغرض سلاحاً، إلا إرادة التغيير فيه، فهل يضمن ألا يستخدم السلاح ضده وضد روح العصر؟!
لقد ثبت، مرة أخرى، إن الطوائف أقوى من المواطنين، والكيان بالتالي أقوى من حلم الوطن، والنظام أقوى من الحكم، والحكم أقوى من الحكومة، والحكومة أقوى من المحكومين.
ثبت إن المواطن هو الأضعف، ولم يكن بحاجة إلى تجربة الميليشيات المرة ليتثبت من هذا الضعف الذي تفاقم الآن فأعجزه عن طلب أي شيء إلا الأمن والأمن بأي ثمن.
جل ما هناك إن بعض أبناء النظام القديم قد غيروا أسماءهم.
لكنهم جميعاً، القديم منهم والجديد، أبناء شرعيون للنظام، وكلهم “أولاد حكومة”،
والسؤال ليس عن “الثورة التي فشلت”، فلم تكن في البلاد ثورة حتى ندرسي مدى نجاحها أو فشلها،
السؤال هو: هل تستحق مثل هذه “التعديلات” التي يطلبها النظاميون من النظاميين كل هذه الحروب، الساخنة والباردة، وكل هذه المباحثات المكوكية على طريق بعبدا – دمشق؟!
لقد تقدم الجميع بطلب تأكيد انتسابهم القديم إلى النظام القديم فلماذا هذا العنف في إعلان قبولهم، وهم المقبولون من قبل ومن بعد، وحتى من دون 6 شباط؟!
هل هي “حرب وقائية” يشنها النظام القديم ضد خصومه الحقيقيين من الحالمين بالتغيير؟
أم هي روح الانتقام من تلك الاعتراضات وهبات الاحتجاج الموسمية ضد بعض وجوه الممارسة في الحكم حتى يكون معترضو الأمس عبرة لمن يعتبر، غداً؟!
الهذا اجتمعت على المواطن سيوف كل أصحاب السيوف؟!
مع هذا، فإن المواطن المضرج بدماء أحلامه، مع التسوية، مع الحل، ومع “أبطال” الحل الجديد – القديم.
إنه مستعد لقبول “التسوية الطائفية” برغم إنه ضد الطائفية،
وهو يعرف إن إلغاء الطائفية مطلبه هو لا مطلب هؤلاء، ولكنه سيعتبر إن هذه المهمة الجليلة ستنتقل مع إرثه إلى أبنائه وأحفاده، وبرغم إنه حزين على جيله فإنه يعزي نفسه بأن حاول فجانبه التوفيق ولكنه حافظ على “القضية” ولم يخنها فظل يجهر بالقول إن الطائفية تلغي الوطن والمواطن،
إنه مع الحل، والحل بعيد،
ولكنه سيظل يطلبه ويسعى إليه، ويعمل له، ويحلم به..
ولن تستطيع قوة أن تمنعه من الحلم، اليوم وغداً وبعد غد.
والأهم: إنه بالحلم سيستطيع أن يتحمل “التسوية” العتيدة.