من حق الأخوة السوريين أن يتباهوا برئيسهم حافظ الأسد، وأن يحولوا مناسبة انتخابه لولاية جديدة إلى عيد شعبي صاخب بمظاهر الفرح والبهجة والاعتزاز،
فالتاريخ السياسي العربي الحديث فقير بالرجالات وبالقادة المؤهلين للأدوار الخطيرة المتاحة لهم أو المفروضة عليهمن إن بحكم الموقع أو بحكم الضرورة والاحتياج في ظل التحولات المذهلة التي ترج العالم كله والتي كانت بعض بداياتها هنا، في أرضنا، والتي تتوالى أقبح نتائجها علينا هنا، في أرضنا.
حافظ الأسد أحد أبرز ذلك النفر من القادة الاستثنائيين، ولعله بعد جمال عبد الناصر، أكثر من شغل الغرب والشرق بقدراته المتميزة في فهم منطق الأحداث وبالتالي في التأثير فيها بما يتجاوز كثيراً حجم بلاده (الفقيرة) ودائماً بالاتكاء على الرصيد الهائل لأمته العربية بتاريخها الحافل وجغرافيتها الحاكمة وثرواتها الظاهرة والمختزنة وفي الطليعة ابدا إنسانها النموذجي في استعداده الدائم للعطاء.
وإذا كان العرب قد عرفوا في مواقع الحكم من حاول تصغير بلاده أو قضيته ليستطيع ادعاء تمثيلها والنطق باسمها، فهم قد عرفوا في حافظ الأسد نموذج من يدرك إنه إنما يكبر ببلاده وبقضيته، ومن يفرض على نفسه مثل هذا الامتحان القاسي والمفتوح: كلما اعترف لبلاده بدور أكبر كان عليه أن يثبت من جديد جدارته بالتعبير عنه، ومن ثم تحمل التبعات الثقيلة بالقدرات القليلة المتاحة.
لقد تسبب العديد من الحكام وأشباه الحكام العرب في تقزيم أقطار عربية يعطيها تاريخها وحجمها ونضالات شعبها الحق الشرعي في قيادة الأمة والعالم الإسلامي واستطراداً العالم الثالث، ومن ثم الدخول إلى مركز القرار الكوني، كما حصل مع جمال عبد الناصر،
ولقد شطبت بعض تلك الأقطار وغابت بل غيبت، ولعلها انتقلت إلى النقيض مما كانته تماماً فجعلها حكام المصادفات والوراثة والمؤامرات النفطية والولاء للأجنبي، “دولاً متسولة” أو “دولاً سمسارة” تعمل لحساب غيرها وبأمرة غيرها، وبالقطعة غالباً، وبأزهد “الأجور” دائماً.
وثمة أقطار أخرى دمرها حكامها بغبائهم وقصر نظرهم أو هوسهم بالسلطة أو حساباتهم الخاطئة، وفي كل الحالات فقد عاملوا أنفسهم وكأنهم أهم من بلادهم – بكل من وما فيها – وأبقى، وهم قد هنأوا “رعاياتهم” من بعد، بأن العناية الالهية قد رأفت بالشعب فأبقت له قيادته الفذة وذات الرؤيا الرسولية، ولا يهم أن تذهب الأرض كلها أو بعضها، أو يموت مئات الألوف في “حروب” غير مبررة.
وكثيرة هي في الأرض العربية نماذج البلاد المهزومة وحكامها لا يتعبون من التباهي بانتصاراتهم الخارقة!
حافظ الأسد ليس كغيره من الحكام، ولعل أبرز ما يميزه إنه دقيق في تقديره لنفسه، وإنه لا يؤخذ بنفاق المتزلفين الذين يبالغون في تكبيره إلى حد الاساءة إلى حجمه الحقيقي (الكبير فعلاً)، ولا بمداهنة الأعداء والخصوم الذين يضخمون قوته توطئة لضربه، أو لاستعداء الأقوياء عليه.
إن هذا الرجل الآتي من حزب البعث قد “تحرر” من حزبيته فقبل من تبقى من الحزبيين الآخرين جميعاً، مقترباً من صورة “قطب” التوحيد الوطني،
وهذا العسكري الآتي إلى السلطة عبر دروس الهزيمة في حزيران 1967، هو الذي أعطى للسلطة مشروعيتها القومية عبر القرار الشجاع بالحرب في تشرين 1973، بالاشتراك مع مصر التي يعرف جيداً عمق العلاقة التاريخية معها وخصوصيتها الفريدة.
وهذا الحزبي – العسكري الآتي من ريف الريف، حيث الفلاح مسكون بحذر عميق يجعله يرغب عن أي حوار خوفاً من السلطة التي تجلد ولا تحاور، قد نجح وأيما نجاح في تقديم نفسه كمحاور رفيع المستوى، من دون أن تضعف حواريته قراره، بل لعلها في الغالب الأعم تبرره وتهيئ الجو له بالشرح الوافي.
إنه ليس كغيره، وإن كان قد أخذ عن كل من عرفه باللقاء أو بالقراءة.
إن فيه قدراً من جمال عبد الناصر، وفيه أيضاًٍ من الملك فيصل بن عبد العزيز، فيه من معاوية بن أبي سفيان وفيه من الإمام الاوزاعي، فيه من سابقيه وقادته من مؤسسي حزب البعث وفيه من شكيب أرسلان، فيه من مكيافيلي وفيه من أنطون سعادة فيه من لينين وفيه من ستالين وفيه من عمرو بن العاص ومعن بن زائدة،
لكنه لا يخلط بين المثال والواقع، بين الطموح إلى الأقصى وبين الالتزام بموجبات فن الممكن،
لقد أفاد من كونه طياراً يرتفع في العلالي لكنه لا ينسى الأرض أبداً ولا يدعها تغيب عن بصره وبصيرته، فهي المنطلق وإليها المآب.
والصورة على الجدار لصلاح الدين الأيوبي في الطريق إلى حطين، لكن المفاوض هو جيمس بيكر، وموضوع التفاوض هو أقصى الممكن، مما كان مرفوضاً ويجب أن يكون مرفوضاً في المستقبل، ولكن الخطأ القاتل أن ترفضه الآن.
بين حافظ الأسد “الأول” الذي تسلم مقاليد سوريا قبل عشرين عاماً، وحافظ الأسد “الرابع” الذي تمت له البيعة بالأمس، مسافة لا يمكن تحديدها إلا بالفارق بين سوريا أواخر الستينات وسوريا بداية التسعينات.
فوسط الانهيارات والتردي والانحرافات التي دمغت هذه الحقبة من التاريخ العربي، تمكن حافظ الأسد ليس فقط من استنقاذ سوريا وتأمين الاستقرار لها، بل هو قد أنجز تقريباً عملية إعادة بناء شاملة لهذاالقطر العربي الفقير بإمكاناته المادية. كما نجح في تحويل سوريا من موضوع للصراع بين الأقوياء في الوطن العربي والعالم إلى طرف أساسي في الصراع وشريك أساسي لا يستغنى عنه ولا بديل منه في أي أمر مصيري حول هذه المنطقة ذات الدور الحيوي في سياسات العالم أجمع.
لقد تجاوز حافظ الأسد بحنكته وبراعته السياسية وقدرته على المناورة، حدود الصورة الأولى التي أطل بها على دنيا السياسة العربية، وبات بديهياً أن يقارن إذا ما قورن بأحد أعظم من حكم انطلاقاً من دمشق: معاوية بن أبي سفيان.
شحبت صورة الاستقلاليين الذين لم يسقط اعتبارهم، وسقطت سهواً أسماء أولئك النفر المغامر من العسكريين ممن تناوبوا على القفز إلى سدة السلطة في دمشق مستفيدين من انشغال الكبار عنهم، أو مقدمين أنفسهم كأدوات للكبار في لعبة الصراع على سوريا والمنطقة، وتخلى “التاريخيون” من قدامى الحزبيين عن مكابرتهم وسلموا بقيادة حافظ الأسد، بل لعلهم قد اندفعوا تكفيراً عن ماضي الاختلاف معهم يخلعون عليه من الصفات والألقاب ما لا يحتاجه.
وبالتأكيد فإن حافظ الأسد ما كان بحاجة إلى مثل هذا التعداد الممل لعدد المقترعين من بين الناخبين، ولا ستزيد من مكانته في عيون مواطنيه وسائر العرب تلك النسب المئوية التي أعلنت لتوكيد الإجماع عليه،
فمن زمان خرج حافظ الأسد من دائرة المقارنة بغيره، وبات التسليم باستمراره على رأس الحكم من الضمانات الوطنية لسوريا ومن الضمانات الجدية لما تبقى من التوجهات القومية في الوطن العربي.
وفي كل ولاية رئاسية جديدة كان الناس يكتشفون في حافظ الأسد كفاءات أعلى من تلك التي أثبتها من قبل،
لقد تفوق حافظ الأسد الثاني على الأول، وحافظ الأسد الرابع سيتقدم بالتأكيد على الثالث، فهذا الرجل الذي لا يكف عن التعلم وتدريب الذات على ما لم يكن يتقنه يفاجئ الناس باستمرار في قدرته على استكشاف التحولات والاستعداد لها بحيث لا تفاجئه.. وأحياناً يسبق فيظنه الناس متهوراً، ثم سرعان ما يكتشفون إنه إنما تنبه قبلهم أو استدرك فلم تدهمه الأحداث ومنطقها القاسي الذي لا يرحم.
بين صفحات مجد حافظ الأسد دوره في لبنان.
فمهما اختلف الناس على هذا الدور، وانقسموا إلى معارض ساخط إلى حد العداء أو موال مبالغ في تأييده إلى حد اتهامه بالتفريط بالسيادة والاستقلال، فالمؤكد إن ما من حاكم عربي (ودائماً باستثناء عبد الناصر) استطاع أن يكون له هذا الحضور الفذ في لبنان، وهذا الدور المؤثر والحاسم (أحياناً) في صيغته السياسية وفي نسيجه الاجتماعي.
لقد حول حافظ الأسد لبنان في سوريا من مشكلة مزمنة وأزمة دائمة ومفتوحة إلى إنجاز تاريخي لم يسقط مقولات “الحركة الوطنية السورية” ولم يهملها أو يتجاهلها، وإن كان قد أعاد صياغتها بحيث لا ترتطم بالنزعة الاستقلالية اللبنانية أو بتلك “الخصوصية” التي يجعلها بعض اللبنانيين “قومية” قائمة بذاتها كأنما رماها البحر في لحظة غضب أو هبط بها مخلوقات من المريخ فرمونا بها وانسلوا.
كانت سوريا، بالنسبة للبنان، حقيقة جغرافية ومزيجاً من الوهم التاريخي والنزعة السلطوية الأبوية التي يفترق عنها الواقع اللبناني يومياً ويمضي بعيداً إلىحد الاستفزاز والتحدي بتقديم النموذج المضاد الجاذب.
أما اليوم فسوريا حقيقة سياسية في لبنان يتضاءل إزاءها الدور العسكري لجيشها الذي قدم الكثير ودائماً باسم حافظ الأسد وتحت راية الحزب التي يحرص عليها ولا يتخلى عنها لأي سبب، حتى ورواد الاشتراكية يحذفون لفظتها من قاموسهم ومن ممارساتهم العملية.
حافظ الأسد “الرابع” أمام الامتحان الأقسى، هذه الأيام.
إنه بكل تاريخه، وبكل إنجازاته، بكل حنكته وبكل دهائه، يواجه محصلة ما أنتجته هذه المرحلة المثقلة بالهزائم ووجوه التردي.
وصورة صلاح الدين ما تزال في مكتبه العاري الجدران إلا منها.
إنه ما يزال يرى نفسه على الجبهة، يخوض غمار الحرب الطويلة التي يعرف جيداً إنها بدأت قبله وستستمر طويلاً بعده،
ولعله يفتقد الرفاق، رفاق السلاح خصوصاً، لكنه لم يقل أبداً: وداعاً للسلاح.
وكالعادة، فإن الناس ينتظرون من حافظ الأسد “الرابع” مفاجآت بحجم التحديات التي تواجهها الأمة وسوريا بقيادتها في موقع الصدارة منها والطليعة.