مرة جديدة اقتطع العدو الإسرائيلي من لحم لبنان وأراق من دماء أبنائه ما يحتاجه لإعادة فرض موقفه، وبالصيغة التي تناسبه، على مختلف الأطراف المعنية بمستقبل المفاوضات العربية – الإسرائيلية.
لقد شن اجتياحاً جديداً بأسلوب استثنائي ليحقق أهم أغراضه السياسية بأقل كلفة ممكنة.
وبالمقابل فقد دفع لبنان أغلى ثمن محتمل “لاعتراف” وزير الخارجية الأميركية به كطرف معني بالمفاوضات ومن حقه أن يناقش ما يحضر مما يمس سيادته بل ووجوده ذاته.
على امتداد ساعات حرثت الصواريخ والقذائف الإسرائيلية معظم الجنوب، وأطراف البقاع الغربي، والبقاع الشمالي بما في ذلك ضواحي مدينة بعلبك، وتلال الناعمة على مدخل بيروت.
كانت طائرات العدو حرة تماماً، والطيارون فيها يلهون في سماء مفتوحة، يتخيرون أهدافهم ويتصيدون ضحاياهم بغير تعجل أو تدقيق: فماذا لو قصفوا آخرين؟! ماذا لو قتلوا عدداً أكبر؟! من سيحاسبهم على تجاوز المدى؟! بل من هو ذاك الذي يحدد لهم المدى؟!
وسهل على إسرائيل الادعاء إنها غارة تهدف إلى فتح الطريق أمام كريستوفر في محاولته الجديدة لإخراج المفاوضات من مأزقها، وليست غارة على الوزير الأميركي ومهمته العتيدة،
وسهل على كريستوفر أن يقبل هذا المنطق وأن يتعامل معه ومع نتائجه على الأرض كأمر واقع جديد، وأن يواجه الأطراف العربية بهذه النتائج وانعكاساتها السياسية على مسار المفاوضات،
فالمهم أن يكون إسحق رابين في وضع مريح ليمكنه أن يعطي وليمكن بالتالي للدور الأميركي أن ينجح،
ولقد حققت الغارة، في جملة ما حققته، اسعادة “الوحدة الوطنية” الداخلية والإسرائيلية، فاضطرت المعارضة إلى الجهر بتأييدها للحكومة، وأعلنت بلسان زعيم الليكود بنيامين نتنياهو إنها تقف وراء الحكومة لتأمين الأمن والرفاه “للإسرائيليين في شمالي البلاد”… بل هو ذهب بعيداً فألمح إلى أن الحكومة إنما تنفذ برنامج المعارضة في مواجهة “الإرهاب”.
وبالمنطق الأميركي المبسط فإن إسرائيل قوية بحكم قوي تستطيع أن تعطي أكثر، وعلى هذا فواجب العرب أن يعملوا لتقويتها، وألا يخافوا من حكمها القومي، بل عليهم أن يحذروا حاكمها إذا كان ضعيفاً!!
أما بالمنطق الرسمي العربي فلا بد أن نساعد الراعي الأميركي، ولو ذهب بعض هذه المساعدة إلى إسرائيل، فالمهم بماذا يعود منها كريستوفر وليس بماذا يذهب إليها.
كان المنظر تقليدياً، أمس: قلة من المهتمين يلازمون المذياع ليعرفوا موقع آخر الصواريخ الإسرائيلية، وهواة التحليل يهونون من شأن الغارة ويعتبرونها رسالة أخرى في مسلسل الرسائل المتبادلة بين سوريا والعدو الإسرائيلي، وبين سوريا والراعي الأميركي، وبين إسرائيل والراعي الأميركي، وكذلك بين الأميركي وبين الإيراني، وربما بين الإسرائيلي وبين الإيراني… ودائماً عبر لبنان وبدماء أبنائه.
والحمد لله أن الجيش اللبناني قد أعلن، عبر بلاغاته المقتضبة، إن لبنان معني بهذا الذي يجري له وفيه وعبره، وإنه ليس مجرد ساحة للمناورات بالذخيرة الحية وعلبة بريد لتبادل الرسائل المتفجرة.
كان المنظر تقليدياً تماماً، أمس: مواكب النواب والوجهاء والقيادات الحزبية تمخر الطرقات بسياراتها الفخمة والمصفحة غالباً، وهم ينتقلون من “أسبوع” إلى “أربعين”، ومن وليمة تحضر للحكومة المقبلة إلى احتفال يؤكدون عبره دعمهم للحكومة القائمة…
لم يقلقهم كثيراً هدير الطيران الحربي، ولا النشرات الإخبارية عن هجماته في مختلف أنحاء لبنان
تلك سياسة عليا لا يملكون ما يقولونه فيها إلا بعض كلمات الحماسة من فوق المنابر التي يحتشد من حولها جمهور أيام الآحاد ليخلص من نمطيه أيام العمل و”يبدل الجو” الروتيني البليد!
… وكان الليطاني يتابع مسيرته الصامتة من شمالي البقاع إلى قلب الجنوب، كأنما ليقول إن الأرض هي الباقية، وإنه باق فيها.
وتقليدية كانت ردود الفعل: بعض التصريحات الحسية، وبعض التعليقات الإذاعية (والتلفزيونية)، وبعض التحليلات التي ترصد موقع الغارة الجديدة من استهدافات الجولة الحادية عشرة من المفاوضات العربية – الإسرائيلية.
طلبت القوى الكبرى من الضحية ضبط النفس، ونوهت بما قالته إسرائيل من أن عمليتها هي محدودة في مداها وأهدافها، وإنها رد على ما لحق بها من خسائر وليست اجتياحاً ولا هي مقدمة لاجتياح واسع النطاق،
وذهب بعض المعلقين إلى أن هذه الغارة قد تسهم في إنجاح مهمة كريستوفر الجديدة، وفي إنها قد تشيع جواً من الاعتدال والواقعية يمكن الأطراف العربية وإسرائيل من تحقيق تقدم ملموس في الجولات المقبلة للمفاوضات الثنائية.
إذن هي غارة “على نية” وارن كريستوفر،
والمهم أن ندقق في قدرة لبنان على توظيفها لإعادة مطالبه الوطنية البسيطة إلى جدول أعمال المفاوضات، فلا يظل يفاوض على مجرد إدراج القرار 425 على جدول أعمال المفاوضات!
والمهم أن نقرأ هذه الغارة جيداً في ضوء الإشارات الصادرة عن واشنطن متصلة بأوضاعه الداخلية وعلاقاته مع سوريا.
وليس الرثاء موقفاً، ولا التشكي والتظلم، ولا التنصل من المقاومة أو الاعتذار عن عملياتها التي يستطيع توظيفها وتثميرها القادر على مثل هذه المهمة، والشرط أن يكون أقوى – بموقفه – من هذه المقاومة.
وأبسط رد على الغارة أن يزيد لبنان من تعزيز علاقاته مع شريكيه الأساسيين في “حرب” المفاوضات، السوريين والفلسطينيين، لا أن يبتعد عنهما طلباً لسلامة موهومة في “الفصل” بين “قضيته” و”قضية” كل منهما.
إنها معركة واحدة على أرض الجنوب والبقاع كما على طاولة المفاوضات في واشنطن… والغارة ضربت صواريخها هنا لتحصد النتائج هناك.
وطالما إن المفاوضات الفعلية هي الجارية مع الأميركي، وبعده مع الإسرائيلي، فلنحسن توظيف “ضحايانا” من أجل أبنائهم الأحياء والذين لن يرفعوا العلم الأبيض ولن يرحلوا عن أرضهم خوفاً من اجتياح جديد،
فإسرائيل ذاتها أعلنت إنها لن تكرر التجربة المرة لاجتياح واسع النطاق حتى لا تدفع الثمن غالياً، كما علمتها دروس جنوب لبنان قبل عشر سنوات.
وواشنطن تعرف أكثر من إسرائيل خطورة مثل هذا الاجتياح، لو إنه وقع، على المستوى العربي وليس فقط على مستوى لبنان، وبالمقابل على مستوى الداخل الإسرائيلي.
وإذا كانت تنقصنا قوة القادر على الحرب، فإننا ما زلنا نملك القدرة على رفض الصلح المفروض بالصواريخ الأميركية تلقيها علينا الطائرات الإسرائيلية.